تتسابق اليوم دول العالم في بناء ما يُسمى بـ(مجتمع المعرفة)، وتضعه ضمن أولويات خططها ومهامها التي تعدها للمستقبل، لتخطو بذلك نحو التطور والتنمية بخطى ثابتة، تستند في ذلك إلى أسس معرفية، وتشييد ذلك البناء المعرفي يعتمد بالدرجة الأولى على جودة التعليم الجامعي؛ ولهذا فإن تطلع أي مجتمع إلى التميز المعرفي يرتبط بالاهتمام بمؤسسات التعليم العالي، لأن النشاطات التي تقوم بها الجامعات تتضمن إنتاج وتسويق المعرفة.
إن قياس مستوى تقدم أي مجتمع عن الآخر، يحدده تميز نشاطاته المعرفية، وتتمثل تلك النشاطات في توليد المعرفة من خلال البحث العلمي المنتج، وتوظيفها والتعامل معها في حل ما يوجه المجتمع من قضايا، وكذلك الاستفادة منها في الارتقاء بعقل الإنسان وإمكاناته الفكرية في تقديم الابتكارات والاكتشافات وبراءات الاختراع.
إنَّ أودية التقنية، وحدائقَ المعرفةِ، والحاضناتِ، ومسرِّعاتِ الأعمالِ، كلها وسائلُ وأدواتٌ يجب أن تتعامل معها الجامعات السعودية، في محاولةٍ جادةٍ لاستثمارِ طاقاتِ أبنائها ومنسوبيها، لتحقيقَ نتائجَ ممتازةٍ تُتيح للمبدعين ورواد الأعمال فرصة عرض أفكارهم وإبداعاتهم، وهذا يؤدي في النهاية إلى تحقيق رؤية ولي العهد -يحفظه الله- في تحويل اقتصاد المملكة إلى اقتصاد يعتمد على ما ينتجه العقل البشري كثروة، بدلًا مما ينتجه باطن الأرض من ثروات.
إنّ هذا التحوّل لاقتصاد المعرفة بات ضرورةً عصرية، وقد سبقتْ إليه دولٌ عُظمى استطاعت من خلالِهِ أن تُنقذ اقتصادها من ركودٍ قاتل، ودوننا اليابان مثالًا، فقد مرَّتْ خلال تسعينيات القرن الماضي بفترة ركودٍ صعبةٍ، واستطاعتْ تجاوز هذه المرحلة عبر توظيف المعرفة اقتصاديًا، وأصبحت واحدة من أكثر الدول تقدمًا في العالم، ويحتل الناتج القومي الإجمالي لها المرتبة الثالثة على مستوى العالم. كما تتمتع العلامات التجارية اليابانية مثل (تابوتا)، و(سوني)، و(باناسونيك)، و(فوجي فيلم) بشهرة عالمية.
سنغافورة كذلك تُمثل نموذجًا رائعًا في توظيف اقتصاديات المعرفة، وقد فازت بجائزة (مدينة المعرفة) لسنتين متتاليتين، وتمكنت عبر هذا المسلك من رفع متوسط دخل الفرد فيها إلى قرابة أربعين ألف دولار سنويًا.
(فنلندا) نموذجٌ ثالثٌ لبركات اقتصاد المعرفة، فهذه البلادُ التي لا تملك الكثير من الثروات الطبيعية تتصدَّر اليوم دول العالمِ كلَّها في نظامِها التعليميّ، حيثُ دشَّنَتْ نظامًا تعليميًا متفرِّدًا وُصف بأنّه (أكثر أنظمة التعليم غرابةً في العالم)، هذا التصدُّر المعرفيّ جعل (فنلندا) رقمًا اقتصاديًا صعبًا ولا سيما في قطاع الاتصالاتِ.
إن واقعنا المعاصر شهد كثيرًا من (التجارب الاقتصادية المعرفية) التي تمكّنت من تجاوز الصعوباتِ، وإيجادِ واقعٍ معيشيٍّ أفضل، وأعتقد أن ولي العهد -يحفظه الله- كان ينظرُ لهذه التجارِب كلها حين أطلقَ رؤيته -حفظه الله- باتجاه تأسيس اقتصادٍ دائم على المعرفة بدلًا من اقتصاد له عمر محدود يعتمد على الموارد الطبيعية كالنفط والغاز والمعادن.
0