في هذه الأيام المباركة من شهر ذي الحجة وأيام الحج نعود إلى خير أيام الدنيا يوم عرفة. اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم فيه النعمة ورضي لنا جميعًا بالإسلام دينًا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينا) [المائدة: 3] نسترجع إلى الهدي النبوي وقيم الدين التي جلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع والتي تتمثل في الحفاظ على الدين والنفس البشرية وحرمة الدم والعرض والمساواة بين الناس في أول رسالة عالمية وفي يوم مشهود، ذكرنا النبي -عليه السلام- بأن أصل البشرية واحد ولا تفاضل بينهم بالجنس ولا بالعرق ولا اللون (يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ) [شعب الإيمان للبيهقي – 5137 ].
ففي هذه الأيام المباركة ومن هذه الصحيفة المباركة نتطرق إلى أمر لم يعد يؤرق القادة والسياسيين والمفكرين والأدباء وأرباب الأعمال فحسب، بل بات من قضايا العصر التي تشغل المجتمعات البشرية بأسرها بمختلف فئاتها وانتماءاتها الدينية والمذهبية والفكرية. إن التطور الكبير الذي يشهده عالم تقنية الاتصالات والمعلومات وتقاطع المصالح وتبادل المنافع بين الناس الذي يزداد يومًا بعد يوم في سرعة مذهلة أصبح الانكفاء والاشتغال بالشأن الداخلي لأي مجتمع أمرًا مستحيلًا حتى بات من المسلمات أنه مطلوب من المفكرين والتربويين وأولياء الأمور ليس فقط معالجة المشاكل التي تحدث في بيئتهم بل محاولة البحث وإيجاد الحلول لكل الهموم التي تشغل المجتمع الإنساني، فما من قضية تطرأ تمس جانبًا من جوانب الحياة المختلفة إلا وتداعياتها وتأثيراتها تصل الآفاق ويتفاعل معها الجميع عبر شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، وهذا عبء كبير وأمانة ثقيلة على كل من يقوم بمهمة التربية سواء كانوا أولياء الأمور أو القائمين على هذا القطاع الحيوي والمهم الذي يشغل حيزًا كبيرًا من حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب. إننا نعيش في عالم مترامي الأطراف ولكن المسافات تقاربت بل تداخلت فالواحد يصبح في بلد ويمسي في بلد آخر بل في قارة أخرى في كثير من الأحيان، وتتشابك الهموم والمصالح والمشاكل حتى أصبح ما يحدث في بلد معين تتأثر به بلدان ومجتمعات وشعوب أخرى محيطة بالبلد المعين أو بعيدة عنه. إن العالم اليوم يتحدث عن قيم وسياسة عالمية وسلوك واقتصاد عالمي وثقافة مشتركة مما يجعلنا أمام تحدٍ كبير؛ لنتأقلم مع هذا الوضع بعرض سماحة الإسلام وقيمه النبيلة وغاياته وأهدافه العظيمة التي لا تخص مجتمعًا ولا ثقافة ولا فئة معينة بل هو للناس الكافة مما يجعل مسألة العولمة لنا نحن معاشر المنتمين لهذا الدين مساحة دعوية مهمة لا عنصر تهديد، وعنصر بناء لا عامل هدم والمتطلع إلى ما أنجزه من هاجر من المسلمين إلى بلاد الغرب من تفوق علمي وعمل دعوي وإسهام ثقافي خير دليل على ذلك. والخوف من مسألة العولمة والتحذير من تداعياتها أصبحت لا تجدي شيئًا بعد أن باتت هذه المسألة حقيقة واقعة نشاهدها. فالمطلوب هو الاستفادة منها وتجنب التداعيات السيئة التي تؤثر سلبًا على مجتمعاتنا بنشر قيمنا وتاريخنا والإتاحة للآخرين بالاطلاع عليها وفتح أبواب التفاعل المعرفي بالحوار البناء القائم على الاحترام المتبادل، ومواجهة الحُجة بالحُجة دون إكراه وازدراء.
– عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة