المقالات

هل أغترب؟

انتهى العام الأكاديمي، بدأت الاحتفالات، وتبادل التهاني وتوزيع الهدايا. ثم بدأ الجميع في التخطيط لمرحلة قادمة. من أنهى المرحلة الثانوية يُخطط للمرحلة الجامعية، ومن أنهى المرحلة الجامعية يُخطط لمرحلة الماجستير، ومن أنهى مرحلة الماجستير يُخطط لمرحلة الدكتوراة، لمن رغب في إكمال دراسته بكل تأكيد.

كان السؤال قديمًا ماذا أتخصص؟ وبأي جامعة أكمل تعليمي؟ لكن مع برامج الابتعاث التي انطلقت منذ زمن بعيد، ثم ازدهرت قبل عدة أعوام في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز -رحمه الله- وعززتها رؤية ٢٠٢٣ أصبح السؤال هل أغترب أم أدرس في جامعة داخلية؟ هل أكمل في المملكة العربية السُّعُودية أم أغترب؟ هل أدرس في دولة تتحدث اللغة الإنجليزية أم دولة تتحدث لغة أخرى؟

ومثل هذه الأسئلة كانت تأتينا ممن أنهى المرحلة الجامعية، وقد وصل من العلم والعمر ما يساعده على اتخاذ القرار لإكمال الدراسات العليا. لكن أصبح هذا السؤال يأتينا ممن أنهى مرحلته الثانوية للتو في عمر صغير وخبرة قليلة وحيرة كبيرة. يريد منك أن تعطيه جوابًا واضحًا إلى أين يذهب؟ أين يكمل؟ هل يغترب أم لا؟ يلجأ لك بصفتك شخص يكبره عمر وعلم وخبرة وتخصص في المجال الأكاديمي، ولا أنكر أنه وصلني العديد من هذه التساؤلات، وأجد في نفسي الحيرة والتأني للإجابة عليها؛ لأن السائل يريد أن يبني مستقبله على الإجابة التي ينتظرها منك.

في موضوع الغربة فلدي الكثير لأقوله. الغربة تجربة لا تُعوض بثمن، وتُقدم لك هذه الفرصة في وقت قد لا تتكرر لك فيه مرة أخرى. لكنك ستعيش تجربة حياتية متكاملة وليس تجربة دراسية فقط، وهنا سيكون المحك. ستكون تجربة نفسية وجسدية واجتماعية ومادية، وكل ما يخطر على البال من جوانب. ستذهب شخصًا وتعود شخصًا آخر، ستقف في مواقف تستوجب منك قرارات مصيرية حاسمة، ستضطر أن تؤجل ألمك ومرضك ومشاعرك؛ لأنك ملتزم بمهام حياتية ودراسية لا تقبل التأجيل، ومن ثم ستعود شخصًا مختلفًا للأفضل في أغلب الحالات.

على الرغم من وجود التضحيات لكنها تستحق ذلك. ستتعلَّم في أعرق الجامعات وتلتقي بمختلف الثقافات وتتعلم الإدارة وتنظيم الوقت. ستعرف نفسك جيدًا. لكن هل يعني ذلك أن أقول لك بأن الابتعاث هو الأفضل؟ ليس كذلك أبدًا. أنت الأعرف بنفسك وقدراتك وخياراتك. حتى الدراسة في الداخل تُعتبر فرصة ثمينة، وما لدينا من جامعات وخبرات تجعلنا نتأهل على يد أفضل الأساتذة، ونكتسب أفضل المهارات، ونتفوق حتى على من اغترب ودرس في الخارج.

وأنا لا أقول ذلك من باب الموازنة، ولكن لتجربتي الشخصية في الدراسات العُليا في الدراسة في الداخل والخارج، فقد ساعدتني على رؤية الصورة كاملة من جميع الجوانب والمقارنة بين الدراسة بالداخل والخارج. خلاصة القول: إنك أنت فقط من يستطيع أخذ القرار، لكن قبل ذلك تأكد بأن أغلب مخاوفك غير حقيقية، والأمور ستمر بسلام، ومن سبقوكم وأنهوا المرحلة خير مثال على ذلك. وأول شيء ستقوله لنفسك عن الاغتراب: لماذا لم أقدم على هذه الخطوة منذ زمن بعيد؟

كل ما عليك فعله هو طرح جميع الخيارات، دراستها، مناقشة أفكارك مع من سبقك بالدراسة والخبرة، ومن ثم الاستخارة واتخاذ القرار.

فإن قررت الاغتراب فلا خلاف في أن السفر والاغتراب مدرسة. يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-:
سَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ: تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ، وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد.

وإن قررت البقاء فلك ذلك. المهم أن تستفيد أقصى استفادة من أي اختيار تختاره وأي مسار تسلكه.

– محاضر/ جامعة جدة
– باحثة دكتوراة/ المملكة المتحدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى