فلسفة دريدا لها عدد من العناصر التي تقوم عليها، أساسها التحرّر من سلطة العقل الغربيّ بكلّ ما يقنّنه ذلك العقل. ومن ذلك:
تحرير اللغة، ويبدأ بتحرير الدالّ عن سلطة المدلول الذي لازمه بإرادة العقل، لا بطبيعة الوظيفة الصوتيّة للّغة. وقد أفاد دريدا من فكر دي سويسر، وآرائه اللغويّة، ومن فلسفة نيتشة ومقوّماتها الثوريّة.
وهنا نقف وقفة مع هذا المكوّن اللغويّ الصغير -أعني اللفظ- وكيف نشأت فكرة التقويض بدءا من هذا المكوّن الصغير.
إنّ الربط بين الدالّ والمدلول ربط تواضعيّ، باتّفاق أهل اللغة. وعلاقة اللفظ بمدلوله ليست علاقة ضروريّة لزوميّة، مثل دلالة ضوء الشمس على النهار، ودلالة الدخان على النار.
الدلالة الوضعيّة أو الاختياريّة من وضع الخطاب، ومن اختيار الناس، أمّا دلالة ضوء الشمس على النهار فلا اختيار فيه للإنسان فهو دالّ بذاته، فالعقل مضطرّ إلى فهم وجود النهار لوجود ضوء الشمس.
أمّا دلالة لفظ مثل لفظ “الماء” على السائل المعروف فهي دلالة تواضع الناس عليها، أي دلالة خطاب، ولذلك فلفظ الماء في العربيّة لا يفهم العقل منه المدلول نفسه في لغة أخرى. لأنّ دلالته على الماء خطابيّة لسانيّة، أي: خاصّة بلسان دون لسان.
ثمّ ينتقل الدالّ إلى المستوى الجماليّ فيخرج عن مدلوله في المستوى الخطابيّ، فالظبية في هذا المستوى الجماليّ تصبح دالة على المرأة الجميلة. وهذه الدلالة الجماليّة من صنع المبدع، وليست من وضع الخطاب، لكنّها تكتسب شهرة في دارج الخطاب.
إنّ الألفاظ التي خضعت لقانون المجاز، أو للوظيفة الإبداعيّة في المستوى الأدبيّ كانت تدور في مخيّلة المبدع، وليست في مصطلح الناس؛ وألفاظ المستوى الأدبيّ من اللغة أكثر تداولا في الناس من ألفاظ اللغة العلميّة، لذلك فإنّ الشرط الجماليّ للغة يطالب العقل بالسماح للخيال بأن يوافق على قبول الدلالة المبتكرة للّفظ، فأصبح المستوى الجماليّ جزءا من الخطاب الجمعيّ، لكنّه مشروط بشروط التلقّي. وهي شروط قلّ أن يكتسبها العقل بمجرّد التلقّي.
ولا ريب أنّ للعقل الإبداعيّ القدرة على ابتكار دلالات جديدة للّفظ، مما جعل الخطابات المختلفة كالسياسيّ، والدينيّ، والفكريّ تُدخل في حسبانها توظيف اللغة لخدمة أهدافها، فتكتسب اللغة أهمّيتها في توجيه الخطاب. ولعلّ أكثر تلك الخطابات استعانة باللغة الخطاب السياسيّ، والخطاب الدينيّ، وهما اللذان جعلا للفلسفة التقويضيّة مدخلا لفكّ الارتباط بين الدالّ ومدلوله الذي وضعه المتخاطبون وتعاملوا به. وسبب اختيار اللفظ المفرد للفصل بينه وبين مدلوله أنّه هو الوحدة الصغرى في تكوين الجمل الخطابيّة، وصناعة الخطاب.
ذلك أنّ الفلسفة التقويضيّة وجدت في الخطاب الرأسماليّ دلالات ليست من وضع التخاطب العامّ بين الناس، ولكنّ الرأسماليّة صنعت لمفردات اللغة، وجُملها دلالات غير التي يعرفها أوساط الناس.
لأنّ الرأسماليّة استعانت بالقوة السلطويّة لترسيخ مفاهيمها عن طريق اللغة. فصنعت مفاهيم غيّرت حقيقة كثير من الأشياء في منظور المجتمع، فجعلت التقويضيّة من أهدافها خلخلة تلك المفاهيم، وكشف أنساقها بعيدًا عن اتّهام السياسة الرأسماليّة. وإنّما بتقويض العقل بكلّ ما يحمله من مفاهيم ومدركات دخل الخطاب الرأسماليّ، وغيره من الخطابات ذات المرجعيّات الخاصّة، دخلت في تكوين بناه اللغويّة وأثّرت في مسارات تفكيره.ثمّ في تداول الخطاب الجمعيّ لتلك المفاهيم على أنّها مسلّمات.
والتقويضيّة تجعل وسيلتها الأولى -وهي فكّ الارتباط بين المتلازمات-وسيلةً مستمرّة في كلّ مدركات العقل ومتلازماته، متجاوزة المتّفق على ضرورة الأخذ بيقينيّته في العقل الغربيّ، إلى ما اختلف عليه ممّا وراء الطبيعة، ومما تناقض العقل الغربيّ في التعامل فيه بين القبول والرفض.
0