للوطن رجال ونساء يندر أن يزخر التاريخ لأي أمة بهن. ومن هؤلاء النسوة النادرات موضي البسام. ولدت موضي البسام أواخر القرن الـثالث عشر الهجري في عنيزة وعلى وجه الترجيح في الربع الأخير من ذلك القرن. وتنتمي هذه المرأة الخالدة إلى أسرة عريقة ينتهي نسبها إلى آل وهبة من قبيلة تميم، وكانت بلدة أشيقر الموطن الأول لأسرتها، ثم انتقل جد الأسرة من تلك البلدة إلى ملهم ثم إلى حرمة، ثم استقرت الأسرة في مدينة عنيزة سنة 1175هـ/1761م، وأصبحت البلدة الأخيرة موطنًا لآل بسام. ولعل السيدة موضي بنت عبد الله بن حمد العبد القادر البسام من أشهر نساء آل البسام ذِكرًا في تاريخ المنطقة والجزيرة العربية بحسب إشارة المؤرخ محمد بن عبد الرزاق القشعمي في الملحق الثقافي لجريدة الجزيرة السعودية (26/12/2015). عاشت يتيمة الأب فتولت والدتها تربيتها وتزوجت فتوفي زوجها وكان لديها ست من الأبناء توفيوا جميعهم الا واحدا فعكفت على تربيته والقيام على الأيتام من أحفادها وامتد خيرها وعطائها الى أيتام ومحتاجين في منطقتها.
حفظت موضي بعض سور القرآن الكريم، وتعلمت بعض العلوم الشرعية، وعرف عنها قوة شخصيتها وإرادتها الصلبة وإسهاماتها في عمل الخير، حيث عاصرت أحداثًا جسيمة وتقلبات سياسية وحربية في المنطقة الوسطى. لقبت بالمحسنة موضي البسام و قال عنها المؤسس “إنهم طوارف لنا فأعزوا طوارفنا” ؛ كما اشتهرت بأعمال الخير والشجاعة.
تكرر اسم هذه المرأة بشكل لافت في مواطن الشجاعة والبذل ودعم جيش مبارك الصباح في معركة الصريف حتى رجوعه للكويت سالمًا. وآوت موضي البسام كثيرًا من المقاتلين مع مبارك بن صباح بعد معركة «الصريف» عام 1318للهجرة، بعد أن أعدت لهم الرواحل على دفعات بمجموعات صغيرة حتى يكونوا بعيدين عن الأنظار، وأكرمتهم، وساعدت في تجهيزهم للعودة إلى الكويت سالمين. فسخرت منزلها وأموالها لجرحى جيش الإمام عبد الرحمن بن فيصل والشيخ مبارك الصباح في معركة الصريف١٩٠١م إبان الدولة السعودية الثانية ولجرحى معركة البكيرية ١٩٠٤م. وكانت موضي قد استقبلت بعض المقاتلين الذين لجأوا إلى عنيزة عقب معركة البكيرية عام 1322هـ (1904م)، حيث أعدت لهم ما يحتاجون إليه؛ كما أنها كانت تزود جيوش الملك عبد العزيز بالطعام من مزرعتها في عنيزة فقد كانت ثرية من الأثرياء الذين بذلوا ما يستطيعون في دعم جيش الملك ورجاله إبان حرب استرداد ملك الآباء والأجداد. فعرفت بأنها امرأة شجاعة ومأوى للمقاتلين في شبه الجزيرة العربية.
ارتبط اسم موضي بمثل متداول في القصيم ونجد هو «لي جاك ولد سمه موضي» وهو مثَلٌ أطلقه أحد أعيان الجزيرة العربية واسمه عايد الصقري، وهذا المثل كناية عن تفوقها على الرجال لجهة الشجاعة والإقدام في الملمات والمبادرة إلى أعمال الغوث والبر والإحسان. لقد كتب الكثيرون عنها وعن سيرتها ومآثرها، ومن هؤلاء الكاتب أحمد بن عبد العزيز البسام في كتابه «المحسنة موضي العبد الله البسام».
عرف عن موضي حب الخير وأخرجت بالتعاون مع عدد من النساء في سنة الجوع عام 1909 التمور من المخازن، وكانت توزعها يوميًا على بيوت الفقراء والمساكين. فحازت على لقب عظيم هو لقب «أم المساكين». لم يكن ذلك فقط، بل تجاوزت ذلك إلى ما هو أبعد، إلى استضافة الجيوش، والتصدق بأموالها في مشاريع الخير، ففي عام 1337هـ، أصيب الناس بمرض الكوليرا في عنيزة ونتج عن المرض وفيات كثيرة، وعرفت هذه السنة بسنة الرحمة، وقد توفي في عنيزة وحدها ما يقارب الألف من الرجال والنساء وهنا برزت موضي فهرعت إلى تحضير الطعام للمرضى وأسرهم؛ كما أنها قامت بتجهيز الموتى، والتكفل بأجرة المغسل والمغسلة والتكفين وحتى حفر قبور الموتى. توفيت موضي عام 1944 في عنيزة. وعلى الرغم من ظروف نشأتها الصعبة وظروف اليتم ثم حياتها أرملة ثم مرض وموت ابنها البكر وبناتها الأربع وتربيتها لأحفادها الأيتام وهي جريحة أحزانها فإنها كانت تضمد جراح من حولها، وهو ما جعلها تستحق تخليد اسمها في كتب التاريخ.
الجدير بالذكر هنا أن دارة الملك عبد العزيز، تقوم بدور كبير في التعريف بالشخصيات الوطنية التاريخية. كذلك قامت بلدية عنيزة مشكورة بوضع لوحة «شارع موضي البسام» لتكون اللوحة الثانية التي تحمل اسم امرأة لشارع في المحافظة بعد أن تم اعتماد تسمية شارع باسم “مزنة المطرودي”– التي تحدثت عنها في مقال سابق، ليصبح لدينا شارعان يحملان اسمي امرأتين. على أن هاتين المرأتين تستحقان توثيقًا أكبر لسيرتهما. وفي ختام هذه الإشارة آمل ألا نقف عند تسمية الشوارع بأسماء العظيمات من نساء الوطن؛ لقد آن الأوان لأن تدرس سير هؤلاء النساء في تعليمنا العام، وأن تخصص المزيد من الدراسات البحثية عن دور المرأة السعودية في تأسيس الدولة السعودية الأولى وحتى اليوم؛ كما آمل من القيادات البحثية في الجامعات إلى تشجيع الباحثين والباحثات على تتبع آثار عمل المرأة على الصعيد السياسي والاجتماعي. فهذا التاريخ الناصع البياض والمشرف للمرأة في شبه الجزيرة العربية لم يأخذ نصيبه من البحث والدراسة والكتابة حوله ولا بد أن توجه له الأبحاث وتخصص له كراسي علمية في الجامعات السعودية (الحكومية والخاصة) لنشر سير الخالدات من نساء الوطن الملهمات للجيل الحالي في كل مجال من مجالات الحياة.
0