نعيش اليوم في عالم الماديات الذي يعزز النزعة الاستهلاكية المادية العالية، ويرفع من قيمة الأنا على الجماعة، ويحث على جعل الغايات أهم من الوسائل، وأن الفرد أهم من الجمع وما لا يؤخذ لينًا يؤخذ عنوة وغيرها من القيم والشعارات المادية البحتة التي بدأت تأخذ طريقها إلى واقعنا، وتهدد مستقبل أجيالنا. وأصبح من الممكن التهكم بتفكير أحدهم، فقط لأنه يفكر بالآخرين قبل تفكيره بنفسه. فتغيرت قيم الإخلاص والتعاون وحب الخير للغير وتحولت إلى مفاهيم أخرى ستأخذ البشرية إلى منعطف خطير تكون فيه القيمة الكبرى هي قيمة المال والمادة والقوة والسلطة بدلًا من قيم الإحسان ومراعاة المشاعر والأخلاق والقيم في الموروث الثقافي.
ومن المعروف أن العالم اليوم يخضع لمتغيرات جديدة ناتجة عن معطيات الثورة الصناعية الرابعة (4IR) التي تسعى إلى تغيير العالم بشكل أساسي؛ كما أن التطورات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي (AI) والتعلم الآلي (ML) والرقمنة تؤثر بشكل متزايد في كيفية عيش الناس وعملهم وتواصلهم وتعلمهم، بل وحتى لعبهم. ونتيجة لذلك، انبثقت مجموعة جديدة من القيم التي يجب تأطيرها وإخضاعها للقيم الأخلاقية والقانونية حتى تصبح قيمًا عليا وقاعدة عالمية. ولا شك أن للتعليم دورًا عظيمًا، في غرس هذه القيم وتعزيزها. وفي عصر العولمة الحالي تسعى الكثير من القوى إلى نمذجة قيم أعمال العولمة والامتياز وتأطيرها بإطار مادي صرف وهو عمل غير جيد وغير مكافئ لمفهوم القيم، إذ يجعله مفهومًا ضيقًا ومحدودًا. ومن الممارسات ذات الصلة ادعاء أنصار نموذج العمل هذا أنه قائم على المبادئ الديمقراطية والرأسمالية التي تعزز الحريات الفردية.
وقد أشارت مراجع علمية عديدة إلى أن مصادر القيم في مجتمعنا متعددة لكنها تنطلق من قيم الدين الإسلامي، وقيم الثقافة القبلية الموروثة، وقيم التراث الإنساني العالمي، وقيم التعليم النظامي. لكن المؤكد هو أن القيم يصعب غرسها إذا لم يتم إشباع حاجات الفرد من سن مبكرة، وبحسب خصائص النمو لكل مرحلة عمرية، إضافةً إلى أن التنشئة الاجتماعية الوالدية أولًا من أبرز العوامل المؤثرة في غرس وتنمية القيم الفردية.
إن من أبرز دواعي الاهتمام بتضمين القيم في التعليم هو طغيان الاتجاه المادي الجامح على عصرنا الحالي الذي أضعف تعزيز القيم والأخلاقيات، إضافةً إلى وجود احتياج بين أفراد المجتمع لغرس منظومة من القيم تسهم في بناء المجتمع وتقويه دعائمه؛ ذلك أن واقع اليوم يواجه تحديات مختلفة باختلاف جهاته ومنطلقاته وإسقاطاته السلبية، هذا العصر الذي يتميز بعولمة ورغبة قوى عظمى في قولبة الجميع بغض النظر عن اختلاف الثقافات والموروثات التاريخية للأمم فانتشرت تيارات فكرية جامحة حادت عن الفطرة السليمة، مما يؤكد الحاجة الماسة إلى تضمين القيم وتعزيز مفهوم منظومة القيم والأخلاقيات والمثل في التعليم بشكل كبير لمواجهة التيارات الجامحة التي تعصف بالأبناء وتسيطر على فكرهم وتوجهاتهم، وهم عتاد الأمة وأساس المجتمع.
إن تحقيق التوازن الفكري والاستقرار النفسي لا يتأتى ببواعث المتغيرات المجتمعية التي أدت إلى اختزال القيم التي أصبحت مفقودة أو التي يتم ربطها بالقيم الدينية فقط دون إظهار الاهتمـام ببقية القيم والأخلاقيات على الرغم من أن كل الأديان حتى الوضعية منها دعت إلى إشاعة قيم التسامح والتقدير والاحترام لكن الدين الإسلامي دين تفوق على كل دين آخر بالاهتمام بتفاصيل صغيرة للغاية في ظاهرها عميقة في مضمونها. والقيم التي نراها اليوم يظهر فيها، إلى حد كبير، أنها تتأثر بعامل الإعلام المرئي والمسموع على نحو كبير. ولم تعد أي أمة في منأى عن القيم الدخيلة والغريبة والمستهجنة، وأصبح الجميع تحت سلطة التأثر والتأثير.
إن سيادة مفهوم أن القيم الروحية الدينية لا تتناسب مع الحداثة التي طالت كل جانب في حياة الأفراد، وإن طغيان التأثير المادي والعولمة والتغير الثقافي والطغيان المفاهيمي للثقافة المادية والرأسمالية تحديدًا من العوامل التي أدت إلى اهتزاز الثقة بقيمنا الدينية. فالنظرة المادية والرغبة الجامحة في شهرة السريعة وتأثير المشاهير- وذلك ما تطرقت إليه في مقال صناعة المحتوى- كلها ساعدت على انتشار الأفكار غير السوية على حساب قيم أخرى كقيم الإحسان والصدق والإخلاص. ولذلك فوسائل الإعلام جميعها، ولا سيما وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة تلك التي تبث سمومها بلا رادع ولا ضمير أخلاقي ولا قانون، لا تقل فتكًا وتأثيرًا بالمجتمعات عن تأثير المخدرات المذهبة للعقل، ولذلك فهي مسؤولة بشكل مباشر عن هدم منظومة القيم المجتمعية.
ومن المهم الإشارة إلى أننا كتربويين ومهتمين بالمجتمع تقع علينا مسؤولية الاهتمام بالجيل القادم من الشباب من خلال تعزيز طرق المشاركة التي تقودنا إلى ما هو أبعد من انتقاد الأعمال المعيبة الموجودة، إلى إيجاد القيم والأعمال المناسبة البديلة. فعلينا اليوم أن نراهن على إيجاد نظام يحتوي على الاستعداد والرغبة الداخلية في الحفاظ على قيم التسامح مع التضحية وهي قيم بدأت تتلاشى ليحل محلها قيم الانتقام وعدم التصالح مع ما فيها من التضييق المجتمعي على حساب ادعاء المواطنة العالمية أو ما بات يعرف بالعولمة.
إن إحدى طرق معالجة “الجانب المظلم” للعولمة هي الاعتقاد أن الموارد تكفي الجميع ولا يصح أن تصبح قيم الأنا مقدمة على قيم الجماعة مهما كانت المبررات.
ولعلي أشير إلى دور جوهري لا بد أن يقوم به التعليم وهو تخصيص الأنشطة الطلابية والنوادي المجتمعية إلى العودة للقيم والأخلاقيات والمثل العليا وهي قيم في جوهر الدين الإسلامي الحنيف، والابتعاد عن الوسائل التقليدية كالوعظ والتلقين، واجتناب متابعة وتقليد مشاهير التواصل الاجتماعي بتصرفاتهم وممارساتهم غير السوية. وعلينا أولًا الاحتكام إلى قيم القرآن الكريم وما ورد في قصص الأنبياء العظيمة والسنة النبوية العطرة على صاحبها أزكى الصلاة والسلام وحياة الصحابة رضوان الله عليهم التي تعتبر مدرسة أخلاقية عظيمة لا بد أن ننهل منها لأن الأصل في مجتمعنا العربي هو الأخلاق مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.”
1
كتابة البرفسوره أماني خلف الغامدي و تحليلها و معالجتها المتكاملة للمواضيع التي تكتب عنها يكشف عمق معرفتها و حرصها على ربط الواقع و الحقائق بما تكتب و هذا يدل على قوة الكاتب. 👍✅✅✅👍