استمعت بإعجاب وتقدير كبيرين لحديث معالي وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد الشيخ الدكتور. عبد اللطيف بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الشيخ لدى سؤال المذيع له عن الحجاج المصريين: “اللي ما يحب مصر والمصريين ما عنده ذائقة المحبة.”
واستطرد معاليه: “نحن نحبهم أولًا لله وما نشاهده في الشعب المصري من مروءة وأخلاق وسمت، وأيضًا ما نشاهده منهم من علم ومعرفة … مصر هي مهد الحضارات والتاريخ. وبالنسبة لمصر هو وطننا الثاني، ولذلك فالإخوة المصريون في المملكة هم إخواننا وزملاؤنا وأصدقاؤنا. ومن يتعامل مع المصريين سيجدهم أنموذجًا يجسد الأخلاق الكريمة والسمت والأدب وتجد فيهم المروءة وهذا لا يستغرب منهم فنحن وهم مسلمون أولًا ونحن وهم عرب ثانيًا. تستميلك المشاعر الطيبة من أي إنسان فما بالك في أناس قامات في التاريخ وقامات في العلم والأدب والمعرفة وشعب شكور…. المصريون مريحون جدًا والكمال لله لكن الغالب والمتميز والظاهر هو أن الحجاج المصريين راقون منظمون جاؤوا فعلًا لعبادة الله.”
هذه العبارات العميقة المعنى تدل على عمق العلاقة بين المملكة العربية والسعودية قبلة المسلمين في كل أنحاء المعمورة، ومصر بلد الكنانة وقبلة العرب قديمًا وحديثًا في الثقافة والعلم والأدب. ولا عجب أن يصدح وزير سعودي بهذا الحب لأم الدنيا مصر فعدة أجيال نشأت على حب هذا البلد العظيم فكان التأثير والتأثر الكبير بكل ما هو مصري. فمصر والمصريون لهم عمق ثقافي في بلادنا لا يمكن إغفاله وعلى عدة أصعدة فلم يكن للتعليم النظامي أن يبدأ من أوائل الثلاثينات الميلادية (1926م) بدون الاستعانة بمصر، فقد كان هناك الآلاف من المعلمين المصريين في مراحل التعليم السعودي كافة؛ كما كانت أولى بعثات التعليم السعودية للمرحلة الجامعية ولنيل الدبلومات العليا لبلاد الأهرام قبل البعثات لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وقد حظيت كاتبة هذه الأسطر أن تتلمذت على يد معلمات مصريات في مختلف المراحل الدراسية أدين لهن بالفضل بعد الله سبحانه وتعالى لتقديمهن لي التعليم بكل مهنية منذ مراحل تعليمي الأولية حتى وصولي إلى المرحلة الجامعية ودراستي لتخصص الفيزياء في كلية التربية في المدينة المنورة فكل من كان يدرس التخصصات العلمية من عضوات هيئة التدريس في العلوم الطبيعية من أحياء وكيمياء وفيزياء ورياضيات بكل تخصصاتها الدقيقة كانوا من المصريين والمصريات وهم من خريجي جامعات عالمية ومنهم من منسوبي ومنسوبات معهد الطاقة في مصر آنذاك. بل إن البعض منا درس المقررات الإسلامية الجامعية على يد مشايخ الأزهر الكفيفين وقد كانوا من العلماء الأفاضل الأكفاء الذي يعملون في الجامعات السعودية. وما زلت أذكر أسماءهم وحظيت بالحفاظ على الصلة ببعضهم.
لم يقتصر الأمر على التعليم بل نشأت أجيال عديدة من السعوديين على المؤلفات والروايات الأدبية لأعظم الكتاب العرب من مصر على سبيل المثال لا الحصر: لطفي المنفلوطي -عباس محمود العقاد- نجيب محفوظ- إحسان عبد القدوس-طه حسين عميد الأدب العربي – صالح مرسي وغيرهم. فتشكلت من خلال تلك القراءات الذائقة الأدبية لأجيال من السعوديين.
ومن المشايخ والقراء العظام قراء القرآن الكريم في مصر الذين اشتهروا بأصواتهم الذهبية واستطاعوا لمس قلوب المستمعين بخشوعهم وقراءتهم المميزة، وتعتبر مصر بمثابة مهد لقراء القرآن الكريم الذين صدحت بتلاوتهم العطرة إذاعة القرآن الكريم من مكة المكرمة منذ إنشائها وحتى اليوم وهم: عبد الباسط عبدالصمد- محمود الحصري-محمد صديق المنشاوي-محمود البنا.
لقد درس جيلنا في مقرراتنا الدراسية قصائد وتراجم أبرز شعراء العالم العربي من مصر، مثل: أحمد شوقي الذي لقب بأمير الشعراء-إبراهيم حافظ- توفيق الحكيم. ومن أبرز من تأثر بفكرهم جيل كم السعوديين الفيلسوف والعالم مصطفى محمود والذين لا يزال القراء يتمتعون بمؤلفاتهم الماتعة. وإذا تحدثنا عن وجه اخر من الأثر الثقافي يمكن القول كانت تبث في حقبة سابقة أغان وموسيقى ومسلسلات مصرية هادفة وبرامج أدت إلى إلف اللهجة المصرية بين أبناء الشعب السعودي. فنشأت أجيال على أغاني أم كلثوم للقصائد المغناة والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وعزيزة جلال. وأما من المسلسلات الراقية فالكثير منها كان ينقل عبر الأثير في المدن القريبة من الساحل الشرقي أو الغربي ومنها ما كان يصلنا مسجلًا مما أدى الى نشر الثقافة المصرية وفنونها العريقة لدى أجيال من السعوديين.
ولأنني ابنة المدينة المنورة، البيئة الخصبة لتمازج الثقافات العربية بحكم توافد زوار الحرم النبوي الشريف، فقد سمعت الكثير عن التكية المصرية في المدينة المنورة. ومما يحسب تاريخيًا لمصر وجود التكية المصرية أو المبرة المصرية وهي مكان يظل شاهدًا على عناية المصريين بحجاج وزوار الحرمين الشريفين في عقود خلت والتكية لمن لا يعرفها من أبناء الجيل الحالي هي مكان تصنع فيه الأطعمة وتقدم للحجاج والمعتمرين القادمين إلى الحرمين من شتى بقاع العالم الإسلامي، وكذا مكان لإقامة المنقطعين بلا مأوى. وتعتبر مصادر تاريخية عديدة أن التكية هي أحد أهم الشواهد التاريخية لمصر على خدمة الحجاج والمعتمرين، وشيدها محمد علي باشا في مكة المكرمة والمدينة المنورة في سنة 1238 هجرية – 1822 ميلادية.
وبقراءة تاريخية فاحصة “ظل الحجاج يعتمدون على ما ترسله مصر سنويًا من خيرات ومخصصات للحرمين الشريفين وللأشراف والقبائل العربية فيما عرف باسم مخصصات الحرمين والصرة الشريفة. خصص محمد علي هذه التكية لخدمة فقراء الحرمين من جميع الجنسيات والشعوب المختلفة الذين أعوزتهم الحاجة ولا يجدون مأوى يأوون إليه ولا يجدون طعامًا يقيمون به أودهم. وكان للتكية ناظر ومعاون وكتبة يقومون جميعًا بخدمة الفقراء. كانت التكية تضم أيضًا مكتبة ومدرسة ويوجد بها أطباء لمعالجة المرضى سواء المقيمون والأهالي والوافدون كما كان عدد المستفيدين من التكية المصرية في الأيام العادية يصل إلى حوالي 400 شخص، تزيد في المواسم كشهر رمضان وموسم الحج لتصل إلى 4000 شخص.”
وثمة جانب آخر للثقافة وهو جانب مهم لا يجب إغفاله في ختام هذا التناول العجل للعلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين مصر والسعودية ذلكم هو المطبخ المصري. المطبخ المصري مطبخ عريق، وهو ذائع الصيت في المملكة، ربما أن ذلك يعود إلى اتخاذ عدد من الأسر المصرية موطنًا لها في الحجاز والمدينة المنورة تحديدًا فهناك ألفة كبيرة وقبول لدى السعوديين للأطباق المصرية الشهيرة فلا تخلو المائدة السعودية من الملوخية والمحاشي بالطريقة المصرية والكوارع وأم على والمهلبية والخشاف، وغيرها من الأطباق المصرية الشهية، والتي من الصعب حصرها أو الإحاطة بها.
كما أن العلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر علاقات متميزة تتسم بالقوة والاستمرارية نظرًا للمكانة والقدرات الكبيرة التي يتمتع بها البلدان على الأصعدة العربية والإسلامية والدولية، فالبلدان هما قطبا العلاقات والتفاعلات في النظام الإقليمي العربي؛ كما أن التشابه في التوجهات بين السياستين المصرية والسعودية أدى إلى التقارب إزاء العديد من المشاكل والقضايا الدولية والقضايا العربية والإسلامية.
كانت مصر ولا تزال دولة مهمة على الخارطة الإسلامية والعربية وشريكًا مهمًا للمملكة العربية السعودية؛ وأحتاج إلى مقالات للمزيد من السرد عن دولة بثقلها وحجم مكانتها لدى السعوديين لكن أردت ألا يمر قول معالي الوزير ال الشيخ دون تعليق مني، وقد حظيت بمعرفة عميقة بنخب مصرية مميزة علمًا ودينًا وخلقًا من مصر ليس فقط في مراحل تعليمي وفي مراحل غربتي في أثناء الابتعاث، ولكن أيضًا كزميلات عمل وأخوات لمدة سنوات طويلة هم فيها نعم الأهل ونعم الأصدقاء؛ فلا غرو أن يصدح بها معالي الوزير من لا يحب مصر والمصريين فليست لديه ذائقة المحبة.
1
تسلم ايديك رروعة