المقالات

رحيل العالم الفقيه عبد الوهاب أبو سليمان

رحل عن الدنيا العلامة الأصولي الفقيه شيخ مشائخنا عبد الوهاب أبو سليمان نجم مكة الأغر، وتاج نبراسها الفذّ، المعروف بهمته العلمية السامقة، ونظره الفقهي المتوقد، وأفقه الاجتهادي الضليع، والمطلع على الثقافة العالمية في مجاله الأرحب، والشغوف بفنون العلم وتاريخ مكة ورجالاتها، ركض ردحًا من الزمن من غير كلل، وأروى صفحات العلم بمداد قلمه وفكره الوقاد، حتى عُد قلمه محل اعتبار وعند طلاب العلم موطن تشوف، أسبغ على ردهات الجامعة ومدرجاتها وصفحات الكتب وصفائح الصحف نبراس معارفه وفيض علومه، وسكب معارف علمه لمريديه، في تواضع العلماء وسخاء الأنقياء وحرص الشرفاء، وإحقاقًا لواجب العلم ومقتضاه كان عبد الوهاب أبو سليمان العالم المربي، والأستاذ الموجه، والفقيه المجتهد، والأصولي المحرِّر، عُرف بتواضع عز نظيره، وزُهدٍ تجمل به وسمى.
لم يكن هذ العَلم شخصًا عاديًا في مجاله العلمي، بل ذو حراكٍ علمي وفكري مضطرد، أسبغ على معارفه العلوم التأصيلية التي تلقاها في مدارس جيله وحلقات شيوخه، وطوَّر ذلك بفنون العلم المعاصرة، ومدارس الاجتهاد المتعاقبة، فكان أنموذجًا يُحتذى في البحث والتأليف ونمط الاجتهاد وعقلية المفكر، نتج عن ذلك دراسات وبحوث علمية كانت محل الاحتفاء وموطن الاعتبار عند الدارسين، ومرجعًا معتمدًا لدى الباحثين، وأينما رسم عالِمُنا قلمه المرعف، نتج عنه علمًا معتبرًا، وقولًا معتمدًا، وكان نتاجه الفقهي في مسائل الاجتهاد مبنيًا على النظر الشرعي، وفق الواقع المعاصر ومقتضيات أحوال الناس وظروف الأزمان، وفق تأصيل معمق من خلال وسائل البحث المعرفية، وطرق الاستنباط الأصولية، وأدوات البناء العلمية، جمع بين الأصالة والتجديد بنظر ثاقب، ومنهجية علمية، واجتهاد مؤصل.
تضلَّع فضيلته بمعارف العلم القويم، من الحديث وعلومه، والتفسير والعقيدة، والمنطق والنحو، والبلاغة والتاريخ، وبرَّز في الفقه وأصوله وتخصص بهما، واطلع على كتابات المستشرقين واضطلع بمعارفه نحو الإفادة منها، وتتلمذ في مدارس الغرب ونهل من معينها، ووظَّف ذلك في خدمة علوم الشريعة، فقهًا وأصولًا وتاريخًا، ومنهجية في البحث والتأليف، وارتسمت شخصية عالمنا بالفكر الموسوعي، فنال شرف المنزلة الرفيعة من العلماء، وأسبغت عليه قادة بلادنا جلالة التكريم بتعيينه في عضوية كبار علمائها، وقلَّدته أوسمة التقدير إجلالًا لعطائه، فكان محل عنايتها، فمنح جائزة الملك فيصل العالمية، وجائزة الشخصية الثقافية للمهرجان الوطني للتراث والثقافة، عالمنا رسم قلمه الأصولي مصنفات، تنبئ عن عقليةٍ متميزة، متضلعة بعلوم الآلة وفقه المعرفة، ومن نتاجه المؤصل (الضرورة والحاجة وأثرهما في التشريع، والفكر الأصولي دراسة تحليلية فكرية، ومنهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه وأصوله، ودور العقل في الفقه الإسلامي).
ومن ثراء اجتهاده الفقهي (البطاقات البنكية الإقراضية، زكاة المال الحرام، توسعة المسعى عزيمة لا رخصة، عقد التوريد دراسة فقهية، وعرفات المشعر والشعيرة دراسة فقهية جغرافية تاريخية حضارية)، ومن نبراس قلمه في منهجية البحث صنَّف (كتابة البحث العلمي ومناهجه، كتابة البحث العلمي ومصادر الدراسات الإسلامية، منهج البحث في الفقه الإسلامي خصائصه ونقائصه، ومنهج البحث في أصول الفقه)، وفي علم الماجريات و تاريخ الإنسانية،ألَّف (الفقه والفقهاء في مكة المشرفة في القرن الرابع عشر الهجري، علماء وأعيان في مكة المكرمة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين، باب السلام في المسجد الحرام، والوراقون في الحجاز في القرن الرابع عشر هجري -بالإشتراك-).
كان فقيد العلم الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان موسوعة علمية فذة، ازدادت مع السنين رسوخًا وقوة، وعطاءً وعُمقًا، وقد رحل الفقيه الأصولي المؤرخ المتفنن مورثًا تركةً زاخرة، وتراثًا ماجدًا، وسيرة عطرة، وأنموذجًا يُحتذى به، هذا العالم الفذ رحل عنا فبكته أروقة العلم، وخيمت بالحزن عليه جبال مكة ووهادها، ورثاه علماؤها وطلابها، وفجع به أرباب المعرفة في الأقطار.
طويت ذات شخصه من الدنيا، وستظل صفحات مداده شاهدةً بعطائه، حافظة لعلمه، ونبراسًا لفقهه، وتراثًا للأجيال المتعاقبة، كما ستظل سيرته العطرة أنموذجًا مضيئًا في مدرسة الأخلاق الفاضلة؛ ليتربى عليها جيل مخلص للعلم، محب للمعرفة، صادق مع نفسه ودينه، وحريٌ أن يُنقش اسم الأستاذ الدكتور الفقيه الأصولي عبد الوهاب أبو سليمان في مواطن الاعتبار والتكريم، فيسطر اسمه على إحدى قاعة المؤسسات العلمية العالية (الجامعات) التي أسبغ على طلابها فقهه ومعارفه، وصقل فيها فكرهم، وأثرى نتاجهم.
وحريٌ ان يُحتفى بنتاجه العلمي على نحوٍ يتسنى فيه جمعه وإعادة طبعه ونشره؛ ليعم نفعه ويزيد في إحياء ذكره.
رحل هذا العَلَم وقد أضاء بعلمه ميادين العلم، ونهل من تراثه أمةً من الناس في الآفاق، رحم الله فقيه مكة وعالمها وأسبغ عليه شآبيب الرحمة والرضوان، وأخلف الأمة فيه بخير.

كتبه/ د. علي بن يوسف الزهراني

2 Comments

  1. اتمنى ان يقوم مدير جامعة ام القري ومن خلال مجلس الجامعة الموقر ان يكرم العالم المكي الجليل الاستاذ الدكتور عبدالوهاب ابو سليمان رحمة الله رحمة الابرار بان يطلق اسمة على احدى القاعات الرئيسية في الجامعة ، وكذلك النادي الثقافي الادبي كوتة ايضا من ابرز المثقفين في العاصمة المقدسة وكان له دور رائد مع بدايات تاسيس النادي الثقافي الادبي بالعاصمة المقدسة .

  2. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه خير الجزاء عما قدمه للعلم وطلبة العلم والفقه ونفع به وبعلمه وجعل علمه امتدادا لأعماله الباقية بعد موته
    إن فقد هو وأمثاله بجسده فسيظل فكره النير وعلمه الجم نبراسا على مر العصور والأجيال

    بارك الله فيكم أبا يوسف وجزاكم خيرا على هذه الكلمات الوافية المعبرة ولا غرابة أن توازي القمم بعضها وتعرف قدر ومنزلة بعض نفع الله بكم يا دكتور ونفع بعلمكم وفكركم الراقي تحياتي ودعائي الصادق ياصديقي الصدوق

    محبك علي مبارك مبارك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button