تحدث الكثير من الحكماء والفلاسفة عن الدنيا، وتعددت الاقتباسات والأقوال حولها، وقد نَسَبَ الشيخ محمد بن صالح الشاوي في كتابه “حكم مختارات” من عيون الشعر والأدب (44) لأبي العلاء المعري قوله:
كلُّ مَن لاقيتُ يَشكو دهرَه
ليتَ شِعري هذه الدنيا لمَنْ؟!
الكل يشكو همّه في هذه الدنيا منذ خلق الله الأرض ومن عليها، فالغني يشكو والفقير يشكو والمريض يشكو والصحيح كذلك، ومن وهبه الله ذرية يشكو ومن حُرِم منها أيضًا، ومن هو يعمل ومن ليس له عمل، الكل يشكو مصداقًا لقوله تعالي: (خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ)(البلد: 4).
لا يزال في الذاكرة عندما كنت طالبًا في برنامج الدكتوراة في جامعة وسط ويلز ببريطانيا في التسعينيات من القرن الميلادي الماضي كانت تمر بي في السنة الأولى من البعثة بعض المشاكل في السكن، والدراسة، ومرض الأبناء من شدة برودة الطقس، وفقد بعض الأهل والأقارب والأحباب.
في الأثناء التقيت برئيس الجمعية الإسلامية في الجامعة وهو زميلٍ عزيز من دولة عربية إفريقية شقيقة، وكان أحد طلاب الجامعة نفسها، ونما إلى علمه وقتها أنني في همٍّ وغم وأمر بظروف صعبة، وبعدما شرحت له ما أمر به من ظروف، عندها نادى على مجموعة من الطلبة الذين كانوا متواجدين في المسجد، وطلب من كل واحد منهم أن يشرح ما يمر به من ظروف:
فبدأ يسرد لي كل واحد منهم ما على كاهله من هموم وغموم وصعوبة الغربة، والبُعد عن الوطن والأهل وتأخر المكافأة، والتي لا تكاد تكفي مصاريفه اليومية، وقد وجدتها أكثر بكثير مقارنةً بما أحمله من همٍّ، ومع ذلك كان كل واحد منهم صابرًا شاكرًا لله محتسبًا. عندها سجدت لله شكرًا على فضله وإحسانه.
ولتسليتي ذكر لي ذلك الصديق هذه القصة التي فيها الكثير من العِبَر:
[كان هناك عمدة لإحدى القرى نما إلى علمه أن أبناء قريته يشتكون من هموم الدنيا التي يحملونها، فطلب منهم أن يتواجدوا جميعًا في سوق القرية وأن يحمل كلٌّ منهم همَّه معه، ويصطفون في صفٍّ واحد، ويضع كل فرد همّه أمامه.
بعدها طلب من كل واحد منهم أن يمرَّ على الجميع ويختار أسهل همٍّ لدى أيّ من الموجودين، ويترك همّه مكانه، وبعد الانتهاء سأل كلّ واحد من أبناء القرية، إن كان اختار همًّا من هموم الآخرين؟ فكانت النتيجة أن الجميع رضي بما قسم الله له من همٍّ، وأن ما يحمله من همٍّ أهون مقارنةً بما يحمله الآخرون].
هذه القصة تُبيِّن أن المرء يجب عليه أن يحمد الله على بلوائه، ويتذكر أن غيره قد يكون أكثر ابتلاءً منه، وأن يتذكر أيضًا أنه لولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تكن فيها الأمراض والأكدار، ولم يضيق العيش فيها على الأنبياء والأخيار.