إن قيم العيش المُشترك لا تتأتى ما لم نؤمن جميعًا بوحدة الجنس البشري في أصل تكوينه ومكان عيشه ومصيره. لقد أثبتت الشرائع السماوية على هذا الأصل، ومن أجل هذا قام جميع الأنبياء بالدعوة إلى العدل والإحسان والتعاون بين الناس جميعًا، ويُقابلها التعصب والعنصرية والأنانية التي ينتج عنها الحقد والكراهية والانتقام والعنف. الانتماء للقبيلة والعشيرة والجنس واللغة، والمحافظة على التراث والعمل بالتقاليد أمر فطري مجبولون عليه، ونقر به بل يندب إليه في بعض الأحيان، ولكن ما لا يُقَر هو التعصب المقيت الذي في سبيله تُراق الدماء، وتبذر بذور الكراهية والحقد، وتتوارثها الأجيال.
إن الحروب التي تنشأ عن القبلية والتعصب المذهبي والطائفي قد أثقلت كهول البشرية، وأصبحت محطات مُظلمة في التاريخ الإنساني، وللأسف الشديد لا يخلو زمن من الأزمنة إلا ونُشاهد فيها العنصرية متقدة في ركن من أركان العالم يسعر نارها عَرِّابو الكراهية وأرباب الحقد متشدقين بتاريخ أمة أو مرتكنين إلى مجد قبيلة أو منتمين إلى عظمة دين زورًا وبهتانًا. بل الهدف من وراء ذلك هو الحصول على مجد مزيف وشرف ملطخ بالدماء وتفاخر بغير وجه حق. مهما ساق أصحاب تلك الأفكار من مبررات لقتل الناس وإشعال الفتن؛ فإنها لا تعدو أن تكون صراعات أناس ملئت قلوبهم بالحقد وعقولهم بالجهل وصدورهم بالضيق.
لقد أزهقت العنصرية والتعصب أرواح الملايين من البشر في رواندا وبوروندي ويوغسلافيا، ولازالت الحروب تدور رحاها وفي أرجاء كثيرة أخرى من المعمورة، وكأن الأرض لا تتسع للناس جميعًا باختلاف ألوانهم وتعدد لغاتهم وتنوع ثقافاتهم فالأرض لن تضيق بنا نحن البشر والله خلقنا عليها ويعلم سبحانه كفايتنا وحاجاتنا وهو أعلم بشؤوننا (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (1). ولو شاء ربنا الحكيم العليم لجعل الناس كلهم لونًا واحدًا وقبيلة واحدة ويتحدثون بلغة واحدة (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (2). إن التعصب أيًا كان مصدره ومهما كانت مبرراته ممقوتًا، وصاحبه مذمومًا، والداعي إليه مذمومًا.
لقد فوجئ الجميع بما يجرى وبإصرار متعمد من إحراق نسخ من القرآن الكريم بدواعي حرية التعبير. وإذا ما تأمل الإنسان وأمعن النظر فيه يجد تناقضًا جليًا بين من يدعي احترم الإنسان واستفزاز مشاعره بالإساءة إلى أقدس المقدسات عنده. إن هذا الجُرم يدل دلالة واضحة على أنه ليس هناك أحد بمنأى عن هذا التوجه الظلامي سواءً العالم المتقدم تقنيًا أو الدول التي تعيش في شبح الفقر والجهل والتخلف الحضاري، وهؤلاء الذين يُقدمون على مثل هذه التصرفات هم بمثابة نار الفتنة وأعداء السلم والأمن المجتمعي داخل المجتمعات. وهؤلاء وغيرهم بحاجة إلى التعرف على حضارة الإسلام السمحة عن قُرب وعلى مبادئه السامية وأهدافه النبيلة وغايته الكبرى في تزكية النفس الإنسانية، والارتقاء بالروح البشرية، واحترام الإنسان بل الكون بأسره.
لا شك أن كثيرًا من تصرفات المسلمين وتعاملاتهم بعيدة عن القيم التي جاء بها دينهم. ولكن المنصف يعلم أن لا أحد من الناس أو من المنتمين إليه يمتلك الحق في تمثيل الإسلام حتى تحسب تصرفاته على هذا الدين العظيم. فالإسلام يُمَثَّل من خلال الوحي الإلهي المتمثل في القرآن وسنة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم. وفي هذا التأكيد إقرار بأن المسلمين وبلدانهم قد ابتليت بصنوف هذا الداء القاتل، وهو داء التعصب والعنصرية المقيتة والاختلاف الذي أو هى أمتهم وشل قدراتهم، وقضى على كثير من آمالهم. إن العالم بأسره والمسلمين على وجه الخصوص في أمس حاجة إلى اكتشاف عظمة هذا الدين، ومعرفة تعاليمه القيمة، وقيمه الكبرى. إننا لا نتحدث عن قيم سطرت في الصحف وتعاليم نشرت في الكتب وعظمة تحدثت بها الألسن بل إننا مدعوون للوقوف على تلك التعاليم التي أرساها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعاشوها المسلمون في الصدر الأول من تاريخ الإسلام واقعًا ملأ قلوبهم وصدورهم وعيونهم نورًا ورحمة وبركة.
إن من أهم مبادئ هذا الدين الحنيف هي الإقرار بوحدة الجنس البشري وتكافؤه وأن المفاضلة لا تكون إلا بالصلاح والتقوى والاستقامة قال الحق سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (3) وفي خطبة الوداع الشهيرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالة عامة جامعة للناس: “يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى أبلغت قالوا بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم – ثم قال أي يوم هذا قالوا يوم حرام ثم قال أي شهر هذا قالوا شهر حرام قال ثم قال أي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم قال ولا أدري قال أو أعراضكم أم لا كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا أبلغت قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليبلغ الشاهد الغائب”(4). ولقد أعلى الإسلام من شأن الإنسان حيث هو إنسان دون التفريق بدين أو لون أو عرق حيث قال سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (5) ولقد مرت جنازة يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم فقام لها فقيل له في ذلك فقال صلوات ربي وسلامه عليه: “أَلَيْسَتْ نَفْسًا” (6). وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حدًا فاصلًا لقضية العنصرية فجعل الأذان في بلال في رمزية عالية لتطبيق مبدأ “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” (7) ورمزية هذا الأمر يتمثل في مكانة المؤذن العالية عند المسلمين حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤذنون أطول أعناقًا يوم القيامة” (8) فتولية النبي -صلى الله عليه وسلم- لبلال الأذان مع خلفيته العرقية ووضعه الاجتماعي القديم ومغايرة لونه، وتقبل المسلمين لذلك بصدور رحبة تدل دلالة واضحة على تجاوز المسلمين القضايا العرقية والخلفيات الاجتماعية في رقي لا مثيل له. ونحن نرى احتفاء العالم الغربي لتولي رجل من أصول آسيوية رئاسة وزراء بريطانيا ومسلم من أصل باكستاني رئاسة وزراء إسكتلندا وقبلهم في أمريكا، نحن نشيد بوصول هؤلاء المكانة المرموقة في هذا القرن ونُذَكِّر في ذات الوقت أن هذا كان أمرًا مقبولًا لدى المسلمين قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان. وعندما عير أبو ذر بلالًا -رضي الله عنهما- بلونه رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “إنك امرؤ فيك جاهلية”(9) وفي حادثة أخرى عندما تنازع الأوس والخزرج وكادت تقع بينهم فتنة وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم غاضباً فيمن معه من المهاجرين، حتى جاءهم فقال: “يا معشر المسلمين، اللهَ الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم؟ أبعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم دعوى الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا، فعرف القوم إنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدو لهم، وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين” (10) هنا نرى يربط رسول الله صلى الله عليه وسلم التناحر والتعصب بالجاهلية والكفر وهذا من أشد أنواع التحذير والدعوة إلى التجنب من الوقوع فيه أو الاقتراب منه وأن من يصدر عنه هذا الفعل لا شك أنه مقطوع الصلة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وفي سنن أبي داوود عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية” (11) إنه بهذا وضع حدًا فاصلًا وموقفًا حازمًا وقولًا واحدًا بأن هذا لا يصدر عن من ينتمي إليه صلوات ربي وسلامه عليه. ونحن في أحوج ما نكون إلى سبيل الهداية، وهي مرهونة بطاعته عليه السلام حيث يقول الحق سبحانه: “وإن تطيعوه تهتدوا” (12) والذي أمرنا الله بطاعته أخبرنا بأن الدعوة إلى العنصرية والعصبية مقيتة سيئة قبيحة بل صورها صلى الله عليه وسلم بصورة تنفر منها الطباع السليمة والنفوس السوية والعقول النيرة حين قال في الحديث الذي رواه الإمام البخاري: “دعوها فإنها منتنة” (13) .
إن الإسلام جميل وربنا سبحانه وتعالى جميل يحب الجمال، رحمن رحيم، جواد كريم يغفر للمذنب ويتجاوز عن المسيء ويتقبل طاعة العبد يسعنا فضله وتسعنا رحمته وهو القائل: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (14) نسأله تعالى أن يهدينا ويتجاوز عنا ويكرمنا بمنه وفضله وكرمه. إن الشرف الكبير والفضل العظيم والانتماء الذي يدعو للفخر والاعتزاز والارتكان إلى الركن الشديد الذي لا يخذل صاحبه هو الوقوف في عتبة العبودية لله واتساع صدر العبد لكل عباد الله اعترافًا بالتقصير في جانب العبودية، وإقرارًا بالذنب عسى الله أن يكرمنا بالقبول ويهدينا فإنه لا هادي إلا هو قال تعالى في الحديث القدسي عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلي الله عليه وسلم-، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعـلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا علي أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر” (15).
———————-
1) الملك: 14
2) النحل: 93
3) الحجرات: 13
4) مسند الإمام أحمد: 22391
5) الإسراء:70
6) مصنف ابن أبي شيبة: 54
7) الحجرات:13
8) صحيح ابن حبان: 1704
9) صحيح البخاري: 30
10) ابن كثير:1/388
11) سنن أبي داوود: 5121
12) النور:54
13) البخاري: 4907
14) الأعراف:156
15) مسلم: 2577