المقالات

أهل ود أبي.. ومن كإخوته!

في مقال سابق كتبت عن كتاب شعب الإيمان ومؤلفه سعادة الأستاذ الفاضل إبراهيم عائش الحمد، وهو أحد أصدقاء والدي رحمه الله.
وقد بذلت ما في وسعي لمد جسور التواصل مع من أحبهم والدي العظيم، فأشرت إلى بذله لهم وصلته بهم، وتلك خصلة حث عليها شرعنا العظيم؛ ففي حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي ﷺ قال :”إن أبر البر أن يصل الرجل ودَّ أبيه.” فكيف الحال إذ كانوا إخوة والدي من أعمام وأهل! رحم الله من لحق به وأطال عمر من بقي منهم.
أحب والدي -رحمه الله- جميع إخوته حبًا عظيمًا لم أرَ أو أسمع عن مثيله أو ما يوازيه من الحب والتقدير؛ يذكرهم دومًا ويسأل عنهم، يرسل لهم رسائل حب وشوق إذا كان بعيدًا عنهم، يمدحهم أمامنا وأمامهم، يذكر ما يحبون من مأكل ومشرب، ويحرص على إدخال السرور عليهم فهو ثاني أكبر أبناء جدي. ويسعى أن يكون على صلة بهم يسد عنهم أي ضرر ويشاركهم الأفراح والأحزان ويعود مريضهم.
وكل من يعرفه يدرك حبه لهم وصلته العظمية بهم فيسعد بصحبتهم وقضاء الوقت معهم؛ كما اعتاد زيارة والديه إبان حياتهما فلا يغيب إلا لعمل خارج المدينة المنورة عن المجلس اليومي لوالده الشيخ حمدان رحمه الله- عمدة قباء آنذاك – وكان، إلى ذلك، مسؤولًا بشكل كبير تجاه والدته منصورة الأحمدي رحمها الله. ذكرت لي والدتي- يحفظها الله- أنه عندما تم ابتعاثه للولايات المتحدة الأمريكية في بداية الثمانينيات لم يمر يوم إلا وهاتف والدته فيه رغم صعوبة وسائل التواصل ذلك الحين. وتحكي والدتي أيضًا أن والدي كان مدهشًا في حرصه الكبير على التحدث يوميًا بلا مبالغة من أمريكا إلى المدينة المنورة باتصال هاتفي لوالدته للاطمئنان عليها، ولم يغب يومًا عنها إلا لسفر خارج المنطقة لظروف عمله؛ وكذلك لم يغب يومًا عن مجلس والده، وكان يتعهده بالاتصال في حال سفره. كما اصطحب- رحمه الله- والدته وأخاه الأصغر عادل يحفظه الله عندما انتقل عمله مؤقتًا لمدينة ينبع. وكم هي الرحلات التي رافقه فيها جدتي وعمي! وعندما حطت به الرحال لفترة وجيزة في أمريكا اصطحب أخاه عادل، ذلك الفتى الذي بادل والدي الحب كثيرًا، وسعد والدي بصحبته أيما سعادة، ويذكر عمي عادل كم كان والدي حريصًا عليه في رحلة تعلم اللغة الإنجليزية! وهو حرص نابع من الشعور بأن عليه مسؤولية رعايته وحمايته فلا يسمح له بالسهر ولا السفر إلا في رعاية من يثق بهم والدي رغم أن عمي حينها تجاوز العشرين من عمره وكان طالبًا جامعيًا. ثم، والحديث لعمي عادل، كانت رحلة الحج إلى بيت الله بصحبة والدي أيضًا.
كان والدي شديد البر بوالديه، وكثيرًا ما أسمع ذلك من أهلي وأعمامي؛ فمع تعدد أوجه البر، لم يترك والدي بابًا منها إلا طرقه من خلال بره بوالديه أحياء وأمواتًا أو من خلال صلته بإخوته وحبه وعطفه عليهم. كان بارًا بوالده الشيخ حمدان- رحمهما الله جميعًا- صاحب المجلس ذائع الصيت في المدينة المنورة، بل إن مجلسه من أشهر المجالس فقد كان يرتاده علية القوم من أهل المدينة المنورة والنخبة والبسطاء كذلك، ولا يمكن لأحد أن يتقدم لخطبة إحدى بنات أسر المدينة دون المشورة والاستئناس برأي جدي الشيخ حمدان، رحمه الله. وقد كان ممن يشهد لهم بالضلاعة في الأنساب. وأخص بالذكر ذكر الناس “مجلس بن حمدان” المقصود به مجلس جدي الشيخ حمدان علي حمدان أحد أشهر مجالس رجال المدينة –أو ديوانية كما يطلق عليها في بعض مناطق البلاد– ولعله سقط سهوًا من مقال الزميل الكاتب حسن عويضة فلم يذكره في مقاله عن مجالس المدينة.
ثم بعد حين تبينت لنا – والقول لعمي عادل حفظه الله- الحكمة الكبيرة من المجلس اليومي الذي كان يحضره كل أبناء الشيخ حمدان السبعة، أربعة منهم من سكان المدينة المنورة ومنهم والدي رحمه الله، وثلاثة منهم أعمامي سكان جدة بحكم عملهم ولكنهم يتواجدون جميعهم في ذات المجلس إذا كانوا في المدينة المنورة فيرون بعضهم البعض وكأنهم لم يخرجوا يومًا من هذا البيت فلم يكن يتغيب عن هذا المجلس أيٌّ من الأبناء. رحم الله من رحل وأطال عمر من بقي منهم في طاعة الله وحسن العمل. ثم انتقل مجلسه “مجلس الشيخ حمدان” في آخر عقد من عمره حيث انتقل جدي للسكن في منزله في شارع الحزام قريبًا من سكن والدي وهذا من أعظم أوجه بر والدي بوالديه حيث حرص على القرب منهم وهيأ لكليهما مساكن تليق بهما.
وقبيل وفاة والدي -عليه تتنزل رحمة ربي ورضوانه-حظي بقضاء أيام الاثنين والخميس للإفطار في منزل إخوته وبجمع من الأسرة من أبناء عمومةٍ، وأهل وأحباب بعد عودتهم من المسجد النبوي الشريف فيتناولون الإفطار كل اثنين وخميس، وكان أصغر أعمامي -يحفظه الله- يردد بعد وفاة والدي: “الآن أشعر باليتم من جديد، وكم هو صعب علي فراق أخي الذي هو بمثابة الأب لي!”
ما دفعني لكتابة هذه الأسطر إلا حاجتنا اليوم لنماذج إنسانية تزن ميزان العلاقات الإنسانية والأسرية والإخوة تحديدًا بميزان الذهب لا سيما بين الإخوة فالتحاب والتواد ومد أواصر الصلة أمر في غاية الأهمية، وهو عملة نادرة لا نجدها تتكرر كثيرًا في زمن اندثرت فيه قيم الصلة بالأرحام، فانتشرت القطيعة واستثقلت الصلة بكل ذي رحم، والعياذ بالله، وتعالت أصوات دخيلة تدعو للابتعاد عن الأهل وتفادي الصلة بهم بحجج واهية. والحقيقة أن هذه الدعوات دخيلة وتتنافى مع بناء مجتمع متماسك وقوي وهي دعوات تبتعد عن قيم الإسلام والموروث القبلي الذي يعزز الجماعة.
وما تركه والدي- رحمه الله- من نموذج إنساني فريد يدفعني للصلة بأعمامي وأهلي من بقي منهم أحياء والصلة بالذين لحقوا به بالدعاء لهم؛ كما أن هذا النموذج الأخوي الذي يندر أن يكون له مثيل يدفعني أن أحتذي حذوه في علاقة الأخوة التي تحوطها عاطفة كبيرة وانتماء إذ يشعر المرء أن أخاه هو نفسه يفرحه ما يفرحه، ويسوءه ما يسوءه. وفي هذا مصداق لتمام الإيمان في قوله صلى الله عليه وسلم “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.” اللهم اغفر لأبي ولأهل ود أبي ولمن دعى له بالرحمة والمغفرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى