المقالات

لماذا جئت إلينا؟

وأهم من ينظر إلى الابتعاث على أنه مُجرد (انتقال مكاني) للحصول على شهادة رفيعة تُعينه في الحصول على أعلى المناصب والدرجات!
فالشهادة يمكن الحصول عليها داخل الوطن، وخير من ضرب المثل الأعلى في الأمة المحمدية هم الصحابة -رضى الله عنهم- أجمعين، فقد عُرِفَ عنهم حبهم للرحلة في طلب العلم، ولا شك أن الرحلة في طلب العلم من الأمور العظيمة التي هي من أسباب تحصيل العلم، فنرى أحدهم يرحل من المدينة إلى الشام أو إلى مصر أو إلى غيرها من البلدان؛ ليجلس بين يدي أحد العلماء ليأخذ عنه حديثًا لا يجده عند غيره من العلماء.
والرحلة في طلب العلم قديمة فإننا نذكر من الأمثلة التي وردت في القرآن والسنة: رحلة موسى في طلب العلم على يد الخضر -عليهم السلام-؛ كما روى خبر ذلك الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر-عليهم السلام-، في قوله تعالى: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾
[الكهف: الآية 66].
حين كنت في جامعة ويلز ببريطانيا أتابع الدراسة سألتني مشرفتي في الدكتوراة “سيلفيا لوتكنز” ذات يوم قائلة: لماذا جئت إلينا؟
عندها تذكرت مقولة العالم الموسوعة ومؤسس علم الاجتماع أبو الوليد أحمد بن عبد الله المعروف اختصارًا “بابن خلدون”، في مقدمته الشهيرة: “إن الرحلة في طلب العلم هي مَزيدُ كمال في التعلِّم”.
فالذي يرحل في طلب العلم والمعرفة يجب عليه أن يدرك تمامًا ما يعنيه الارتحال للتعلم من حصول مثاقفة فكرية وعلمية واجتماعية وعقلية لا يمكن الحصول عليها دون هذه الرحلة.
لا أبالغ إذا قلت: إنني زُرتُ أكثر من خمسين مدينة وقرية وبلدة في بريطانيا وبعض دول أوروبا أثناء دراستي للحصول على درجة الدكتوراة في الإحصاء التطبيقي والتي امتدت لأربع سنوات. رأيت علماء كبار، وقابلت أساتذة عظام، فتلقيت عليهم أشياء عن إصداراتهم وتجاربهم وأبحاثهم، حضرت الكثير من المؤتمرات، والندوات، وورش العمل، والمحاضرات العامة في بريطانيا وخارجها. حضرت دار الأوبرا مرارًا، والمسارح والمتاحف تكرارًا، ودور السينما غير مرة، زرت المكتبات العامة، وعقدت صداقات عديدة مع أناس كثيرين من مختلف البلدان والأعراق والأجناس. تعلمت من التجارب الحياتية، مررت بالكثير من المواقف، اكتسبت خبرات في الكثير من المرات، اجتزتها بنجاح بفضل الله أولًا ثم بدعاء الوالدة الحبيبة -أطال الله عمرها- في صحة وعافية.
ومن كل ذلك أدركت أن: “من الناس من يتعلم لكي يحصل على شهادة ومنهم من يريد الحصول على شهادة ليقال إنه متعلم”. والله أعلم.

أ. د. بكري معتوق عساس

مدير جامعة أم القرى سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى