المقالات

محمد الطيب التونسي ومذكرات إنسان “3”

‏استحدث الفريق الطيب برنامجًا لإرسال مجموعة من كبار الضباط إلى أوروبا، والهدف أن يروا التنظيمات لعلهم يتأثرون بها، ويسهل عندهم استيعاب الأنظمة وتحديث الإجراءات. أيضًا الاطلاع على ثقافات المجتمعات الأخرى. وكانت الرتب المختارة فقط قيادية تبدأ من مقدم إلى لواء، وكل مجموعة تتكون من خمسة ضباط، وفي مجموعة تقرر سفرها إلى لندن وباريس وألمانيا. رأس المجموعة (العميد) يحي المعلمي وعضوية كل من العقيد هاشم عبد الرحمن والعقيد محمد نيازي والعقيد سعيد نحاس. “الرتب كما كانت عليه في ذلك الوقت”، وكانت هناك المفاجأة فقد وجّه -رحمه الله- أن أكون من بينهم. فقال له رئيس البعثة -النقيب أسعد ضابط جيد ويستحق-. لكن رتبته صغيرة كما تعلمون. فرد عليه أنت قلتها أنه جيد ويستحق أما الرتبة فستكبر في حينها. هذا ما أخبرني به رئيس البعثة ونحن في لندن. بعد الترشيح بفترة ذهبنا إلى لندن، وكان الفريق الطيب يقضي إجازته هناك ولا ندري إلا ومندوبه يستقبلنا في المطار، وقال الفريق يتمني عليكم أن تزوروه في بيته، وذهبنا وكان بيتًا جميلًا في الريف كجمال ذوقه ورقي ثقافته، وسلمنا وبعد السلام ترك الجميع ومسك يدي، ونحن ندخل إلى المنزل وقال لي أمس قرأت الزجل الذي كتبته في الجريدة لقد أعجبتني الفكرة وأسلوب التناول استمر.
كانت المحطة التالية هي عندما كنت أعمل في مرور الرياض، ولم يكن يروقني العمل هناك. فقد كنت أشعر كأني وافد غريب علي كيان يريد أن يمضي في أسلوب عفا عليه الدهر ولا يقدم جديدًا. فذهبت إلى مدير الإدارة العامة للمرور الإنسان النبيل الذوق العميد آنذاك هاشم عبد الرحمن، وكانت لي من فضل الله حظوة عنده تواترت من متابعة عملي من إدارة إلى أخرى، وطلبت من العميد هاشم. أن لا أعود إلى مرور الرياض؛ لأني لا أشعر أني أنتمي إليه وبالتالي وجودي كعدمه. فرد علي وقال لقد لاحظت وفهمت، ولكن ما رأيك أن تذهب إلى عسير؟ فقلت: بأية صفة قال قائدًا للمرور هناك. فقلت أوافق. ووجدت في وجهه علامات الرضا؛ وكأنه فوجئ بقبولي دون تردد. في ذلك الوقت كانت عسير لا تزال في بدايات نهضتها، وليس كما هي الآن عروس ولا أجمل. بعد أيام فوجئت بأن مدير مكتب الفريق الطيب المقدم فهد الغنام يطلبني لمكتبه. فذهبت وقابلته فقال لي الفريق طلب مني أن أسألك هل أنت موافق على الذهاب إلى عسير؛ فأجبته نعم. فقال سأبلغ معاليه ما قلت. وفي اليوم الثاني استدعاني مرة أخرى المقدم الغنام وقال لي الفريق: يقول هل تريد الأمر إلحاقًا (يعني مؤقتًا) أو تثبيتًا. فاجبته أريد تثبيتًا، وعجبت لأمر هذا القائد مع كل مشاغله وعنفوانه والمسافة الكبيرة بين مقاماتنا كيف يتابعني، ويحرص علي أن يقدم لي الأفضل. تقاعد ذلك الرجل الفخم ومضت الأيام واستلمت إدارة جوازات منطقة مكة. ومعلوم أنه -رحمه الله- من المقيمين في جدة. ووفقنا الله في تطوير العمل في جوازات المنطقة، وفي يوم من الأيام أتاني مرسول من معاليه يحمل ظرفًا، وقال هذا من معالي الفريق الطيب. وفتحته فوجدت فيه صورة خطاب مرسل لمعالي الفريق فهد الشريف المدير العام للجوازات -رحمه الله-. يثني فيه علي شخصي والمجهودات التي بذلت وكيف تطورت الجوازات، وكان خطابًا مليئًا بالعبارات الرائعة، واعتززت جدًا بهذا الخطاب وكيف لا وهذا الرجل من وضع لبنات تطوير الأمن العام فهو شخصية قدوة ومثال عظيم للقائد الفذ، وضمرت في نفسي أن أذهب في يوم ما إلى بيته العامر لكي أشكره علي هذا الثناء الجميل الراقي فمقامه أكبر من أن أتصل عليه هاتفيًا، ومرت عدة أسابيع نتيجة انشغالي في العمل. إلى أن قررت في أحد الأيام وأنا وفي طريقي للعمل أن أذهب أولًا لمنزل معاليه (مكتبه كان في منزله)، ومن ثم أواصل طريقي إلى العمل، وأنا أرتدي بدلتي رن الهاتف وإذا بالفريق فهد الشريف يقول لي: عظم الله أجرك في وفاة الفريق الطيب، وفوجئت وتعجبت سبحان الله هكذا في هذا اليوم الذي قررت أن أزوره من بين الأيام ولم تتحقق أمنيتي، وإذا بالفريق يتابع ويقول وقد اخترناك عن قطاع الجوازات لتذهب مع الجثمان إلى المدينة المنورة حسب وصيته ليدفن هناك. لا إله إلا الله. قدر وأي قدر وما شاء الله فعل. أحضر نفسي لأسلم عليه وهو حي فألتقي به وهو ميت. بل لنحمله على أعناقنا إلى مثواه الأخير، رحمك الله أيها الإنسان النبيل أبا وليد. يا من سبق القيادات بمسافات. هم كذا الأفذاذ وإن ماتوا فهم أحياء وإن رحلوا فهم في كل زاوية لهم أثر وإرث وفي كل قلب لهم فيه ود.
في طيلة أيام عمله جابه الطيب الكثير من العقبات وبالذات من الذين لا يترعرعون إلا في اللامبالاة والأجواء العكرة وغير الصحية وثقافة وضع العصا في عجلة التغيير، ولكن تجاوز ذلك بالصبر والحنكة وعزم الرجال ودهاء القادة.
الطيب التونسي رحل بسلام وترك بصمات وإنجازات ثرية. نعم قد لا يذكره إلا قلة أو يجهله الكثير، ولكن جيناته لا تزال تنبض وتنساب في كل الأعمال التي أُوكلت اليه وتشهد. رحم الله الفريق الطيب عاش حيًا في قلوب كل من عمل أو تعامل معه، ومات وظل حيًا في وجدان الشرفاء والأوفياء والمنصفين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى