أبرز الأخبارالثقافيةملحق صحيفة مكة الأدبي

المقاهي بعيون محمد أبو قمر.. الناس ومتغيرات المجتمع

 

 

بقلم: محمد بربر

 

يقول محمود درويش في رائعته:

مقهىً’ وأَنتَ مع الجريدة جالسٌ

لا, لَسْتَ وحدَك. نِصْفُ كأسك فارغٌ

والشمسُ تملأ نصفها الثاني…

ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين

ولا تُرَى [إحدى صفات الغيب تلك:

ترى ولكن لا تُرَى]

………………………………….

(1)

انطلاقًا من توصيف الكتاب المعنون “المقاهي في مصر.. دمياط نموذجًا” بكونه دراسة بحثية، فإني أراها جادة وثرية، إذ استخدم فيها الباحث والكاتب محمد أبو قمر، عددًا من أدوات البحث، بمنهجية البحث الوصفي وكذا استعان بمنهجي التحليل والاستنباط، لكني أرى أنه أقرب ما يكون لتصنيف ماركيز كونه اعتمد على المنهج الأنثروبولجي ليقترب إلى ما اعتبره ظاهرة إنسانية.

في مائة وثمانية وخمسين صفحة، يستعرض الكاتب في دراسته مناحي متعددة، ليبدأ بتعريف المقهى ثم القهوجي، مرورًا باعتباره مشروب القهوة مشروبًا سحريًا، ويرصد بداية معرفة الإنسان بالدخان، وأنواعه، ثم يقدم وجهة نظره بشأن الجدل حول التدخين، قبل أن يأخذنا في جولة تاريخية عن تطور المقاهي شكلا ومضمونًا، وأدوات المقهى ووسائل التدخين، مرورًا بأسباب تردد أهالي دمياط على المقاهي، أسباب قديمة ومعاصرة، ويعرفنا أنواع المقاهي ومقاهي المزاج ويلتقي مع شيخ القهوجية، ثم يقدم رصدًا طويلا يكشف عن جهد حقيقي قدمه الكاتب ليبرز أهم المقاهي في كل منطقة.

ولعل من المهم أن نقول إن الكاتب استعان بنحو 23 شخصًا كشهود على هذه الظاهرة.

………………………………….

(2)

ومن المدهش أن تجد الكاتب يرصد أمرًا بات عاديًا الآن، لكنه قبل سنوات، وفي مدينة طالما عُرفت بالإنتاجية، كان يُعد عيبًا، فيكفي مقهى واحد في كل منطقة يخدم أهلها، يقول الباحث محمد أبو قمر: “أثناء إعداد هذا البحث ظهر على الساحة في مدينة دمياط قرابة مائة عام خلال أقل من عام”، فضلا عن المطاعم والكافي نت والكافي شوب، وإذا كان سؤالنا: لماذا؟ فالإجابة في الكتاب نفسه: حين يؤكد الباحث في فصل آخر أن الدخان يُعتبر الأكثر ربحًا، حتى في سوق صنوف المقاهي نفسها.

وأضيف: أن المقهى الذي يتميز بتقديم صنوف الدخان الجيدة، والمشروبات المميزة، يجعل الزبائن، وخصوصًا من المقتدرين، يسيرون إليه سيرًا، بحثًا عن مزاج طيب ووقت ممتع، وهو ما عرفناه ورأيناه في عدد من مقاهي المدينة.

…………………………………….

(3)

مقهىً، وأَنت مع الجريدة جالسٌ

قي الركن منسيّاً، فلا أَحد يُهين

مزاجَكَ الصافي،

ولا أَحَدٌ يُفكرُ باغتيالكْ

كم أنت منسيٌّ وحُرٌّ في خيالك!

منذ السطر الأول، اعتبر الباحث أن المقاهي ظاهرة إنسانية، ويخبرنا أن المقهى جزء من حياة المدينة، ثم يتناول تاريخيًا نشأة هذا المكان “المقهى: اسم مكان”، وكان “بيت القهوة”، ثم علاقة البيت بتدخين الناس ثم ما الذي كان يحدث تحت الحكم العثماني، ويشير إلى أن العبيد الزنوج كانوا يعملون بالمقاهي، ويرتاد المقهى أفراد الطبقة الدنيا والتجار والطوائف المتعددة، ثم يصف واحدة من أدوات التدخين الشهيرة في وقت سابق، فيقول: “جوزة الهند البسيطة المغروس بها قلب خشبي من أشجار الفواكه، مجوف مخروط يدويًا، وغابة البوصة تستخدم كمبسم”.

وحتى يوثّق الكاتب التطور الذي حدث في رحلة المقهى، جاء برصد تاريخي رغم بساطته إلا أنه يكشف عن الطفرة التي حدثت في الستينيات والسبعينيات، على مستوى الشكل، والتمرد على البساطة التي كانت لا تتعدى حجرة بسيطة أو محل مفروش بمقاعد للرواد، لنجد بعد ذلك المصابيح المضيئة والألوان والزخارف وكل ما يمكن أن يمثّل حالة مختلفة لهذا المكان، وهو ما قدّمه أيضًا من توصيف في فقرة “المقاهي في رمضان”.

كُنت أواجه بدهشة واستغراب الأشخاص الذين يسألونني في استنكار: “إنت بتقعد على قهوة؟”، نعم حدث ذلك فعلا، مرات ومرات، وتكون إجابتي دائمًا أن المقاهي للجميع، لك أيها التاجر والحرفي والمثقف والأمي والطبيب والعامل والثري والبسيط، في محاولة لنفي هذه التهمة العجيبة، خصوصًا وأن الموروث الثقافي يؤكد أن المقاهي بطبيعتها مساحة من تجمع اجتماعي ومنابر لحرية التعبير، وبالتالي شهد العديد منها المناقشات الفكرية التي وضعت الأساس للحركات السياسية والفنية الاجتماعية في حينها. فقد خرجت كثير من الفنون والحركات الفكرية والثقافية من هذه المقاهي، وعلاوة على ذلك، فإن العديد من الفنانين والموسيقيين والكتاب والمبدعين عامة قد استخدموا أولاً هذه المقاهي مرحلياً مقاراً لهم وازدهرت بعد ذلك تشكيلاتهم المختلفة في المشهد الثقافي.

………………………

(4)

يقول أحمد عبدالحميد

 

كلما ضاقت النفس بالنفس ، أتيت اليه..

كان ضوء النوافذ القريبة يذوب فيه ، وتذوب فى الضوء شواغله ..

كان مقهــى وحيدا

تمور موائده بالرغـبة الصابئة ؛ وأوقاته ظل.. وبارقة

في مشاهد أتخيلها طالعت ما قدمه الباحث من تصنيف أسباب تردد الأهالي على المقاهي في دمياط، إذ كانت ميناء تجاريًا، وكان المقهى بمثابة مكان لسمر الرجال، وللراحة بعد تعب العمل، وكذا لعقد الصفقات ومضايفة الغرباء، وملتقى للزوار من أنحاء مصر وبلاد العرب، فضلا عن المقاهي المتخصصة التي تضم طوائف العمال والصناع، ويرصد الباحث أن لكل حرفة مقهى خاص، كما رصد بامتياز مقاهي الأدباء والأفندية والصم ومقاهي الشيوخ، وكذا الغرز الخاصة بمدمني المخدرات، هذا قديمًا، لكنه في واقعية مفرطة يحلل الأسباب المعاصرة، مشيرًا إلى أن المقهى أصبح مكانا لاستقبال زوار المقامات والمريدين، وللتحية والمحاسبة، وللفرار من الضجيج والمشاكل والمسئولية، فضلا عن شباب المدارس والجامعات “أسماها تزويغًا”، ولفتوة الحارة، وإن كنت أعتقد أن هذا المصطلح لا يناسب طبيعة مدينة دمياط حاليًا، فلم يعد هناك فتوات، وكذا من الأسباب المعاصرة التي أوردها أنه مكان للمبصبصاتية الذين يفيضون في الكذب والتحرش والافتراءات والخوض في الأعراض، ومكان للهروب من الزوجات، أو هروبًا من المكاتب الحكومية، كما أنه المكان المفضل للسماسرة والوكلاء والنصابين والقوادين قبل أن يحل الإنترنت بديلا لهم، على حد وصفه.

لا أريد أن أطيل عليكم: نحن أمام وجبة ثقافية، بحث علمي مدهش، وجهد يُحسب لاختيار هذا التراث اللامادي، بوازع من الانتماء والوعي ومحاولة استنباط واستشراف، ورصد لزيادة أسعار الخامات ومنتجات المقاهي، واختلاف أخلاقيات المقهى قديمًا وحديثًا، إنه صراع قائم بالأساس بين أجيال، وربما هناك أكثر من جيل يظل منتميًا إلى المقهى، بعقله وروحه إذ تمثل جزءا وفلسفة وتشكيلا في حياته، وعن اللغة: فالكاتب استخدم الأسلوب التحليلي المبسط بكلمات فصيحة وأخرى شعبية وضعها بين أقواس ليؤكد مكانتها في نفوس سكان المقاهي إن جاز التوصيف، وبعيدًا عن أخطاء بسيطة في اللغة كان يجب مراجعتها، أعتقد أن دمياط بحاجة إلى كتاب مثل محمد أبو قمر، على مستوى الانتماء والرصد والمنهجية والجهد وتتبع القديم، وهو المؤرخ الملتزم الوطني الذي طالما يقدم لنا الكثير من المنتج التاريخي التراثي الشعبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى