المقالات

ترجمات الفكر

دائما أندهش بشكل كبير حين يبلغني أن أعمالي كلها فيها شيء مشترك ومميز، منذ ميلاد التراجيديا حتى آخر ما نشرت؛ مقدمة لفلسفة المستقبل؛ لقد قيل لي: إنها كلها تحوي بحيرات وأحابيل لاصطياد الطّيور المتغافلة، وشبه تحريض، خفي لكنه مستمر، على قلب التّقديرات المعتادة والعادات المقدرة”
هذا هو تصور نتشيه عن قلمه والذي طالما كرر ” لغتي الخاصة” و “لغتي” وكثير من العبارات التي تمثل بناء خاص وهيكل مستقل، ولكلٍ تصور ما يريد تجاه ما يخط، وأيا كان فالذي يكتب لديه الفكرة تجاه ما ينتجه بالاعتماد على المنطلقات، وتلك الزوايا المظلمة التي خرجت منها تلك الكلمات.
قد حكم على نفسه بأن ما يكتبه أحابيل للترصد ومحابل للاصطياد، وقد بنى ذلك على الكثير من ردود الأفعال، وهذا هو بيت القصيد لهذا البناء وقد درج هذا عنه في أن ما يكتبه مختلف حتى لا يدع للقارئ فرصة الخيار حول المتابعة من عدمها.
ما تكتب وما تكتبه ردود الأفعال تجاه ما تكتب تشبه معركة تختلف حدتها بقدر ما يتماشى الأول من الثاني، وتجد في شرائح الكتاب العديد من التباين في ذلك الميدان، فهناك من لا يحب الضوضاء ويكره السجالات المزعجة، وبالتالي يشتري سكونه بمماهاة الجماهير قدر الإمكان، ويجهد نفسه في عدم الخروج عما يريدون، وينبذ العداء مع أي طرف ولو على حساب ما يعتقد، وهناك من يتكلف الخروج على أراء المستمعين، وكانه يعيش عداء مسبق معهم، فهو رهينة مخالفة الجماهير، ولو على حساب ما يعتقد، وركيزته الأولى اصطناع الهجمات المضادة، وتأليب الآراء على قلمه، وربما هي وسيلة للنشر أنجع وأنجح في هذا العالم، وتحديداً مع هذا الجيل، وقد تظافرت الوقائع لتثبت شي من هذا حتى باتت سنة مرسومة ومذهب يُتبع، بل ونظام للظهور يدرس ويدرّس.
لكل شرعة ومناهجاً، ولكن يبقى الكثير منادياً للصدق باحثاً عليه، والبعض يشعر بالمكتوب كشعور كاتبه تماماً ويحس فيما يخفيه الكاتب أحياناً، وكثير ما نقرأ شيئاً ونحس في صدق الكاتب ونتعاطف معه مع أنها حروف كتبت في ظرف معين، ووقت معين، ولكن يبقى للجماهير دليل على يمرون به.
لست هنا لأقرر أيهما الأحق، ولكن جميل أن يكتب أحدنا ما يعتقده دون مراوغة، وأن يخط ما يدل عليه حين تنتهي رابطة الكاتب والمكتوب.
لا تراعي الجماهير على حساب نفسك، ولا تنكفئ على إحداث الضوضاء على حساب الحق، وما تعتقده، وكن منصفاً لقلمك كإنصافك لفكرك وعقلك، وما تراه صادماً فانثره بين الناس ولعل بينهم ما يحتاج لتلك الصدمة لينعش عقله بتلك الأحرف.
كن معتزاً بما تكتب، مقتنعا بما ترسم، وتمثّل بعض ما يراه نتشيه من اعتزاز يستفز حيناً وتُعجب به أحياناً أخرى، وربما في نظري أن كتابات نتشيه والكثير من المفكرين والفلاسفة أخذت طابع الصمود أمام ذلك التقادم، وليس ذلك إلا بسبب صدقهم فيما يطرحون بصرف النظر عن صحته المهم أن يكون هو حقاً ترجمة لما يجول داخل تلك الأفلاك.
ختاماً. لكل علاقة إنصافها الخاص، وتقديرها الحكيم الواجب، ومن إنصافك لتلك العلاقة أن تكون مبنية على الترجمة الحرفية لكل ما يتبناه طرف العلاقة الآخر.

رياض بن عبدالله الحريري

كاتب وصانع محتوى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى