ينبغي العلم بأن دراسة أسماء الأماكن فرع من اللسانيات “الطوبونيميا” الذي يهتم بدراسة الأماكن ـ وفك أسرارها ـ ومن سكنها أو أنشأها وقد أطلق عليها أسماء بعينها، كأسماء البلدان والأقاليم وكذلك المدن والقرى، ولا شك أن أسماء الأماكن منها القرى أطلقت بأسباب صفات جغرافية في المكان أو على أسماء الأسر والأشخاص أو بسبب أحداث شهيرة كحادثة نجد الكلبة “قرية “الكِلِبة” أو غير ذلك كثير، والأسماء لا تعلل وبعض أسماء الأماكن تصعب معرفة أسباب تسميتها وماهية استخدمها كقرية القرنطة وثروق التي ذكرها ياقوت الحموي: “مرتجل لم أرَ هذا المركب مستعملًا في كلام العرب وهو اسم لقرية عظيمة لدوس بها منبر”.
ومثال على ذلك: للتسمية التي من صفة المكان الجغرافية قرية “العنق ” كما ذكرها السلوك: لوقوعها في رأس جبل يشبه وضعها فيه العنق من بقية الجسم، وأما القرى التي سميت بأسماء أول ساكنيها كقرية آل عازب وآل جابر وقرية بني أحمد وقرية القفرة، وكثير من أسماء المواضع الطرق والمزارع سميت بسماء وصفات وضعها لها أهلها وتعارفوا عليها على مر السنين، وليست أسماء القرى في نواحينا ببعيد عما يحدث الآن من التغيير، وهي بالتأكيد جزء من هويتنا التاريخية والزمنية والجغرافية، والحضارية، استمدت أسماءها وألقابها من عوامل كثيرة شكلتها أحداثًا تاريخية وأوصافًا جغرافية قامت حولها.
وتم التعارف عليها توارثًا بين الأجيال ولتسهيل التعارف بين الناس وبمرور الزمن كنتيجة طبيعة لتجمعات الناس والعمران البشري، وقد أشار القرآن الكريم إلى لفظ القرية في ستة وخمسين موضعًا جاءت جميعها بصيغة الاسم ولم تأتِ بصيغة الفعل كما في قوله تعالى في سورة يوسف “واسأل القرية التي كنا فيها” وكل اسم وضع لقرية أو مكان إنما هو يخص شيئًا بعينه، قامت التسمية عليه، وهذه الأسماء إرث تاريخي ـ دون شك ـ تعيش جنبًا إلى جنب ردحًا من الزمن لا تتغير بتغير الأشخاص بل يفنى الأشخاص وتبقى أسماء المواضع ومدلولاتها التي تم التعارف عليها منذ مئات السنين فهي دليل هوية وانتماء لا بد من تعريفه لأجيالنا، وأسماء القرى مطبوعة بالضرورة في عقول وأذهان أهلها إذ تذكر عند الحديث عن السرة الذاتية؛ يُعرف بها الأشخاص وترد في معظم الوثائق والسجلات الشخصية، فهي ليست مجرد أسماء والسلام؛ إضافة إلى أنه كان لمعظم القرى لقب آخر إضافة إلى اسمها المعروف يتحيون ويتنادون به اعتزازًا وفخرًا فمثلًا النصباء يقال لهم “الفاهرة” والحلاة “الباكرة “وهذا ارتباط وثيق بهذه الأسماء والألقاب وللعلم فقد وردت أسماء لقرى ومواضع كثيرة في كتب التاريخ والسير والمعاجم الجغرافية كمعجم البلدان لياقوت الحموي المتوفي سنة 626هـ وحديثًا المعجم الجغرافي لبلاد غامد وزهران لعلي السلوك، ولا تزال تحتفظ بوجودها إلى يومنا، وقد أشرنا سابقًا إلى استمرارية توارث الأسماء وبقائها بين الأجيال فطريًا، ومثالًا لما نذكر: ثروق وقرية أو دارة برحرح عرفت في بعض المصادر القديمة باسم بزحزح، بلدة الحجرة حجرة دوس وأبيدة (بيدة) وكرا وجرب والرمداء قرية “الرمادة” وبعضها اختزنته أشعار العرب كقصيدة أبي يعلى الأزدي ذكر فيها قرية حزنة:
ويا ليت لنا من ماء حزنة شربة.. مبردة باتت على الطهيان
والشنفرى ذكر قرية العصداء ورباع ومواضع أخرى:
وامشى لدى العصداء أبغى سراتهم.. واسلك خلا بين أرباع والسرد
وبعض القرى ذكرتها المصادر مصبوغة أسماؤها بصبغة تاريخية أو أثرية كقرية عشم والخلف والخليف والأحسبة، وذكرت قرى في أيام العرب كحضوة وعويرة ودوقة ومنها ما هو موجود في أمثالنا الشعبية الدارجة كقولهم (من سعنانه إلى قذانه فقذانه … أمسينا في آل سلامان وأصبحنا في آل سلامان … الشدود يا محوية … كما القرن ورمس)
وطبيعة اللغات تداخلية تتشابك وتتقارب مع مرور الوقت والاستخدام، وفي ذلك بحوث ودراسات تنأى عن الحصر نتج عن تلك الطبيعة ما يمكن أن نسميه بالتحريف والتصحيف والتقارب والتشابه في بنية الكلمات الدلالية والصوتية مما حدا ببعض الباحثين باستغلال توظيف هذه المسميات ـ بأهداف مقصودة ـ أو غير مقصودة لإزالة بعض الحقائق التاريخية والآثار والمعالم وتحريكها من مكان إلى مكان وربما حالفهم الحظ فيما يقررونه وأكيد قد جانبهم الصواب في الكثير والعديد من تأويلاتهم وتحريفاتهم؛ خاصة ما يتعلق بأسماء وآثار الكتب السماوية والديانات القديمة وخاصة التوراة؛ فاستغلت تلك الأسماء ودرجة التشابه الكبير بينها وبين قرى ومواضع أخرى؛ حيث قام بعض الباحثين في تاريخ الحضارات والديانات القديمة بإسقاط تلك الأسماء على مواضع أخرى لإثبات أثر حضاري أو ديني أو تاريخي.
واستكمالًا لموضوعنا تغيير أسماء الأماكن والقرى في منطقة الباحة؛ فهل يحق لنا الاستفسار والتعليق على ما قامت به بعض الجهات كبلدية الباحة مؤخرًا في سياق تنظيمي أو تحديثي من إطلاق أسماء الأحياء على كل مجموعة متقاربة من القرى بمسميات جديدة ليست فيها ما يحتوي على أي اسم من أسماء تلك القرى حسب الجدول التجميعي فهي مسميات دخيلة غير مناسبة، فمثال على ذلك: أطلقوا اسم قرطبة على (الحصبة والخليف والرهوة) وكان من الأجدر استبدال الخليف بقرطبة لمكانة الخليف التاريخية والتراثية وكذلك الناصرية على مجموعة قرى وأحياء الظفير وهي الأشهر وكانت قاعدة ومقرًا لبلاد غامد وزهران وكذلك اسم “الغدير” أطلقوه على (الاثمة والشريق والغرباء والفقها) فلو استبدل السد بالغدير ألم يكن أفضل لشهرة سد وادي الصدر وكونه أكبر من الغدير، وهذه المسميات الجديدة قد لا تناسب طبيعة الأماكن والسكان وخاصة ممن لا زالوا يحافظون على التاريخ حيث يرون ذلك طمسًا للهوية التاريخية والحضارية للأماكن ! …وذاك مجرد رأي..
ـ جدة