ذهبت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بزوجها (محمد بن عبدالله) إلى ابن عمها (ورقة بن نوفل) ليقص عليه ما حدث معه في غار حراء.. فلما سمع منه.. قال له: هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى، فلم يعقب (النبيُّ صلى الله عليه وسلم) على ذلك. ثم قال ورقةُ: يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا أكُونُ حَيًّا حينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقالَ (رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ): أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟! وفي هذا الاستفهام المشْبَع بالتعجب منه عليه الصلاة والسلام على كلمة (ورقة بن نوفل) يظهر تأثير الانتماء للوطن في النفس البشرية التي جُبِلَت على التعلُّق بأرضها التي وجدت فيها، ودرجت على ترابها.
ثم صَدَعَ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله وتحقيق التوحيد في نفوس عباد الله وبدأ بدعوة قومه حتى إذا آذوه ومن تبعه وضاقت عليهم أرض مكة، أُمِرَ صلى الله عليه وسلم بالهجرة مع أصحابه واختار الله لهم أرض المهاجَر (يثرب) المدينة المنورة. فلما همَّ عليه الصلاة والسلام بالخروج من مكة مُوليا وجهه شطر (طيبة) التفت إلى مكة يخاطبها وقال: “ما أطيبك من بلد وأحبَّك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك”. وفي رواية قال: “والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت”.
وعندما أراد الله سبحانه وتعالى معاقبة اليهود في عهد موسى عليه السلام قرن بين قتل النفس والخروج من الديار فقال جلَّ وعلا:
“وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا” النساء 66.
وبشيء من التأمل في دلالات مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم تجاه أرضه التي أُكره ــ لحكمة أرادها الله تعالى ــ على مفارقتها، وقبل ذلك في المساواة بين قتل النفس وبين الخروج من الديار في الآية الكريمة تتبيَّن لكل ذي بصيرة منزلة الأوطان في نفوس أهلها.
الوطن أيها السادة، هو الذات نفسها، وهو الأمان، وفي الوطن ــ فقط ــ يشعر الإنسان بمتع الحياة ويجد مذاقها الحقيقي! وإلى الوطن لا إلى غيره يتوق الإنسان في لحظة الممات التي يتيقَّن خلالها أنه لم يعد يملك شيئا إلا أن يوارى في ثراه!
ورحم الله ابن الرُّوميّ حيث يقول:
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَــــــــــــــــــهُ وألا أرى غيري له الدهـــــرَ مالكا
عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً كنعمةِ قومٍ أصبحُوا في ظلالِكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إِليهــــــــــمُ مآربُ قضاها الشبابُ هنالكا
إِذا ذَكَروا أوطانهم ذكَّرتهمُ عهودَ الصِّبا فيها فَحنُّوا لذالكا
فقد ألفته النفسُ حتى كأنهُ لها جســـــــــدٌ إِن بان غودرَ هالكا
نحن نحتفي بيوم الوطن.. نحتفي مغتبطين ممتنين لله تعالى أن أكرمنا بالانتماء إلى هذا الوطن الكريم أرضا، العظيم إرثا وأثرا، هذا الوطن الذي حباه الله بنعم تُعَدُّ فلا تُحْصى..
إنْ شئتَ فنعمة الإسلام أجلُّ النعم وأعزها وأكرمها، وإن شئتَ فنعمة الحُكْم الرشيد في ظل ولاة أمرنا أيدهم الله وسدد رأيهم. ولاة أمر عرفوا للدين مكانه فاهتدوا بهداه، وحرموا حرامه وأقاموا حدوده بين عباد الله، وعرفوا للمقدسات مكانتها فرعوها حقَّ رعايتها، ولاة أمر المواطن عندهم هو الركن الذي يفيئون إليه ويعملون من أجل رفعة شأنه، ولا يعلو عندهم صوت فوق صوته. ولاة أمر حفظوا للمقيم حقوقه، وكفلوا للزائر حفظ كرامته.
وإن شئتَ فنعمة الأمن، هذه النعمة التي نتقلب فيها ليل نهار، هذه النعمة التي لا يهنؤ من فقدها بشيء من رغد الحياة! وإن شئتَ فنعمة الوسطية والاعتدال.. وإن شئتَ فنعمة القوَّة والمنْعَة والعزَّة التي بات يعرفها العالم كُلُّه لبلادك.
إن شئتَ فقل: نحن نحتفي في كل عام بيوم الوطن، وفي كل عام للاحتفاء مذاق يختلف، وإحساس يتوهج، ومشاعر تتجدد، ومنجزات تتولَّد.. ثم قل: هذا وطني (المملكة العربية السعودية) قلها شامخا مفاخرا شاكرا لأنعم الله.
وفي احتفائنا هذا العام بيومنا الوطني الثالث والتسعون، نحمد الله تعالى على ما أولانا من نعمه، وما أكرم به بلادنا من خيراته.. فالتطوير لا يتوقف شاملا الكيان والإنسان، مستغرقا التنظيمات والقوانين.. محققا مفهوم جودة الحياة بكل ما يحمله المصطلح من ظلال وإيحاءات..
في احتفائنا بيومنا الوطني هذا العام، أصبحنا ندرك أن بلادنا غدت مركز القرار الدبلوماسي، وصانع الموقف السياسي، وموجه القرار الاقتصادي في العالم.. وهذه الصدارة ما كانت لتتحقق في غضون بضع سنوات ــ بعد توفيق الله ــ إلا بجهود مضنية وعمل دؤوب ومبادرات خلاقة.. وشغف بتحقيق الريادة، وشجاعة في خوض المنافسة.. وتطلع إلى سُدَّة السيادة.. كلُّ ذلك الطموح وأكثر منه، ينطلق من رؤية ثاقبة حُدِّدَت أهدافُها بعناية، ورُسِمَت لها مناهج عمل وفق معايير مُحْكمة..
واليوم، نقطف ثمرات تلك الجهود، ونعيش منجزات تلك الرؤية، ونمضي نحو منجز جديد، ونحلم لمستقبل بلادنا بالمزيد.. ونحن مطمئنون أن الأحلام تتحقق، لأن الله معنا، ولأن الآمال يقودها بعون الله سمو سيدي ولي العهد يرعاه الله صاحب الرؤية وعراب الإنجاز، الذي يخطط بعناية وينجز بشغف، في ظل توجيه يقف خلفه مَلِك عادل حكيم.
إن الاحتفاء باليوم الوطني لبلادنا إنما هو احتفاء بترابنا وأنفسنا؛ فما الوطن سوى كيان وإنسان؟! والمواطنة الحّقَّة إنما تكون بأفعال تترجم الانتماء في أبهى صوره وأجمل حالاته.. ومنجزات تتحدث عن نفسها، ومواطن يُسْهم في البناء والعطاء..
أيها النبلاء:
بالأمس بتنا نحلُم.. واليوم أصبحنا وقد حققنا الحلُم.
– مكة المكرمة السبت 23 سبتمبر 2023م