مقابلةُ النصف ساعة تُنبأُ عن أَعظمِ المواقف، وتختزلُ أَدقِّ السياسات، وتحيطُ بأَبرزِ الملفَّات، بيدَ أَنني في هذه المساحةِ القصيرةِ أيضًا لا أُركِّزُ على الملفَّاتِ والمواضيع إنَّما أسلِّط الضوءَ على حكمة الأَمير محمد بن سلمان النَّابعةِ من ذكائهِ وإلمامه العميق بالتوجُّهات السياسية، وحذاقتهِ في تناولها من الطرفِ الذي يريدهُ هو لا الذي يريدُ المحاور قيادتهُ إليه، أو يأمل بعض الخصوم أن يسمعوهُ منه.
لا شكَّ أن المحاور الأَمريكي التابع لقناة (فوكس نيوز) جاءَ محمَّلًا بأسئلةٍ من العيار الثقيلِ لكنَّها موجَّهة ومدروسةً بدقَّة، ومحدَّدة سلفًا لاستكناه مواقف المملكة بعد سلسلةٍ من المواقفِ مع الإدارة الأمريكية، والكيان الإسرائيلي، والعلاقة مع إيران، ومجموعة بريكس، والمواقف الموحَّدة مع روسيا خاصَّة فيما يتعلق بإمدادات النفط، والتوجُّه السعودي لحل الخلاف مع الحوثيين، وعدد من القضايا الأُخرى.
أُعجبتُ بالحنكةِ التي يتعاطى بها الأمير محمد بن سلمان في إجاباته على أسئلةِ المحاور الأمريكي، وهي إجابات تنمُّ عن نضج سياسي، وقدرة على بسط المسوِّغات الخاصة بالسياسة السعودية فيما يتعلق بعلاقاتها بالآخرين، فالأمير يعي متى يتحدَّث عن شخص أو عن دولة، وله في هذا مبرراته، فحين سأله المحاور عن التعاون مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أجاب “في السياسة السعودية نحن لا نتدخل في من يدير شؤون دولته، من يكون في قيادة بلاده” وهذا منهجٌ سياسيٌّ لا يتعلَّق بالتعامل مع الأفراد وإنَّما مع المصالح الدولية، لأن السياسة محكومة بالمصالح وليس بتصرفات الأفراد، هذا فضلًا عن أن الحكم يُقاس بسياسات الدول وليس وفق سلوكيات قادتها، وهنا لا يهم من يكون الشخص الذي يتم التعامل معه طالما أن هناك اتفاقيات يمكن أن تخدم المصالح المشتركة، أما حين سأله المحاور عن شخصية الرئيس الصيني فأجابه بما يعبِّر عن إعجابه بما يقوم به من أجل نماء وتقدم بلده، وتبريره المضمر الذي كأنَّما يبعثُ من خلاله برسالة إلى الغرب، وهنا فإنه لم يجد حرجًا في أن يتكلم عن “شخصية” الرئيس فأظهر بحديثه عنه دفاعًا عما يقوم به الرئيس الصيني فيما يتعلق بحقه في القيام بكل ما يخدم مصلحة بلاده، وفي ذلك إيصال رسالة مبطنة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بأَن الصين كدولة لها الحق في أن تخدم مصالحها، ولا يجب أن ينظر لتحركاتها الاقتصادية والسياسية على أنها ضد المصالح الأمريكية أو الأوروبية.
حين تحدث عن العلاقة مع أمريكا فإنه لامس على الفور قضية سياسية واقتصادية مهمة وهي مكانة أمريكا في الشرق الأوسط وأشار إلى أن أمريكا لا تريد أن تفقدها، كما لامس قضية عسكرية أمنية تتعلق بالأسلحة الأمريكية التي تعد المملكة إحدى أهم الدول التي تقـتنيها والاتفاقات التي تعقدها مع أمريكا، وهنا تتضح الرسائل التي أراد أن يوصلها الأمير إلى أمريكا، وينبهها بلغة فيها تحذير مبطَّن من تغيير التوجُّه في حال استمرار أمريكا في سياستها الحالية.
أما حين سأله المحاور: “لماذا اخترتم الصين للعب دور الوساطة بينكم وإيران؟ فإِن سمو الأمير قد أتقنَ في إجابته الحاذقة الردَّ بالقول: “لم نختر الصين بل الصين نفسها هي التي اختارت أن تكون وسيطًا” وفي هذا دلالة على تقدير المملكة للصين وتجاوبها مع مبادرتها، فضلًا عن إظهار مرونة السياسة السعودية في حلحلة القضايا المعقدة، وإعادة التعاطي معها بفكر مختلف، ووسائل أكثر فاعلية.
وفي سؤال المحاور سمو الأمير عن الرئيس الصيني كيف يراه أجاب سموَّه قائلًا: “إنه يحاول أن يصنع الأفضل للصين وله كامل الحق في ذلك فهو زعيم دولة ويريد لدولته أن تنجح وتنمو، ولا تريد أن تفشل أن ترى الصين تفشل؛ لأنها إن فشلت الصين فإن نسبة 13 % أو 14% من الناتج الإجمالي العالمي، فإذا فشلت الصين فإن الجميع سيفشل بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية” في هذا الرد تتضِّح الرسالة لأمريكا وهي رسالة سياسية عميقة وكأنما يقدم الأمير درسًا عقلانيًا ومنطقيًا لأمريكا التي تسعى لإعاقة نمو الصين، وعرقلة توسعها في أفريقيا والشرق الأوسط بأن فشل الصين ليس لصالح أحد بما فيهم أمريكا، كما أن الرد يوضِّح الموقف الإيجابي للعلاقة الخلاقة بين الصين والمملكة المتحدة.
سأل المحاور الأمريكي سموِّ الأمير وهو يتحدث عن انضمام المملكة إلى مجموعة بريكس: “هل المملكة تعيد تقييم شراكتها الأمنية من خلال التفكير بطرق مختلفة للقيام بهذا؟ وهنا يتبيَّنُ فكر سمو الأمير ودقة إجابته إذ قال: “لا مجموعة بريكس ليست تحالفًا سياسيًا، هناك مجموعتان داخل مجموعة العشرين” فقد عرَّج على الفور إلى مجموعة العشرين التي هي أيضًا تحتوي على مجموعة اقـتصادية هي أيضًا، وهذا من باب دفع الحجة مستقويًا في حجته بالتوجهات المماثلة للطرف الآخر الناظر إلى هذه المجموعة بعين الريبة والشك، وإن كان ذلك بصورة غير مُعلنة.
كما أنَّ حنكته في الإجابة دلَّت على عتابٍ مبطَّنٍ لمجموعة العشرين التي لم توجِّه الدعوة للمملكة كما بادرت إلى ذلك مجموعة بريكس قائلًا: “نحن نرى أننا إذا استمرينا لعقد آخر بدون أن نصبح في إحدى المجموعات في داخل مجموعة العشرين هذا قد يمثل صعوبات اقـتصادية ولذا بريكس هي خيار، ووجهت لدينا الدعوة من بريكس، وهي ليست مجموعة مناوئة لأمريكا أو الغرب بل فيها حلفاء”.
وقبل أن يختم المحاور سؤاله لسمو الأمير عن دعم أوكرانيا تتجلَّى نباهة الأمير في سرعة الرد، وفي المباغتة قبل إكمال السؤال: ماذا عن الرئيس الأوكراني، الرئيس الأوكراني قال “إن السعودية تدعم أوكرانيا وتدعم الوصول إلى حل بين روسيا وأوكرانيا وأنها تلعب دور الوسيط بين البلدين” وهنا نرى أن سمو الأمير قد آثر أن يباغت محاوره حتى لا يتقوَّل بكلامٍ غير صحيح عن عدم أوكرانيا، أو الميل إلى روسيا.
أما ذكاء الأمير فيبدو أيضًا في إظهاره تفاهة المزاعم التي تدَّعى أن المملكة تدعم روسيا في موقفها من خلال اتفاق “أوبك بلاس” وذلك باستحضار عضوية إيران في معرض الإجابة قائلًا: “اتفاق أوبك بلس ليس لدعم روسيا، إيران عضوة في المنظمة وقد كانت عدوتنا في ذلك الوقت فكيف يمكننا أن ندعم إيران هذا ليس منطقيًا” مختزلًا سموَّه الأمر في النطاق الاقتصادي “عندما يكون هناك نقص في العرض أو الإِمداد فإن دورنا في أوبك بلس هو تغطية النقص أما إذا كان هناك زيادة، فإن دورنا هو موازنة ذلك من أجل تحقيق الاستقرار في السوق”.. المسألة “مسألة عرض وطلب”.
هذه مقتطفات من ردود سمو الأمير الملكي محمد بن سلمان ولي العهد في لقائه بمحاور قناة (فوكس نيوز) الأمريكية، وهي ردود تنمُّ عن الحنكة والذكاء اللذين يتحلَّى بهما الأمير محمد بن سلمان، الذي يقودُ المملكة في نهضةٍ تاريخيةٍ، وفي منعطف تاريخي، مبرهنًا على الإرادة والإصرار والفكر الحصيف، والسياسة النبيهة مرسخًا اسمه وأثره كأحد أصغر القادة الذين يصنعون التاريخ لأوطانهم.
• كاتب وأديب وإعلامي عُماني