حين ترتبطُ التربية بقيَم المجتمع وأخلاقِه، وتُبْنى المناهجُ التَّعليميَّةُ على أساسٍ منْ تلك القيَم والأخلاق، ويُدركُ القائمون على المؤسَّسات التَّربويَّة والتعليميَّة بمختلف مستوياتها.. حقيقةَ أنَّ القيَمَ والأخلاقَ هي جوهرُ الرسَالة التَّربويَّة ولُبابُ هُوِيَّتها؛ فإنَّهم عندئذٍ يحرصونَ على إعداد المسؤولين في تلك المؤسَّسات ــ مُعلمين وغيرهم ـــ لتشكيل مشروعٍ تربويٍّ تعليميٍّ يستطيعُ توجيه النَّشْءِ توجيهاً متوازناً يُمَكِّنُه مِنَ النُّهوض بالأمَّة، وتحقيق مستهدفاتها، وبناءِ حضارتها، انطلاقاً منَ القيَم التي آمنوا بها، والمُثُل التي رَبُوا عليها، والفضائلِ التي تعلمُوها تلقيناً ومحاكاةً خلالَ رحلتهم التَّعليميَّة.
وقد أكَّدَ ابن خلدون في “مقدِّمته” أنَّ التربيةَ على القِيَمِ والفضائل تَتْرُكُ في نفُوس الناشئة آثاراً تَتَشَكَّلُ منها شخصياتُهُم، وتُؤسَّسُ عليها توجُّهاتُهُم. يقول: “والبَشَرُ يأخذونَ معارفَهُم وأخلاقَهُم وما ينتحلونَهُ منَ المذاهبِ والفضائلِ، تارةً عِلْماً وتعليماً وإلقاءً، وتارةً مُحاكاةً وتلقِّياً بالمباشرة، إلا أنَّ حُصولَ الملَكَات عن المباشرة والتَّلقين أشَدُّ استحكاماً وأقوى رُسُوخاً”(*).
وهذا الكلام من ابن خلدون يُصدِّقُه واقعُ الحال، وقد عُرِفَ بالملاحظة والتَّجربة؛ لأنَّكَ تَجدُ المعلِّم القدير يؤُوبُ إلى شَرْط (الأخلاق) في تعاطيه مع المتعلِّمين ممارسةً وسلوكاً؛ حتى لا تنتقل منه خُلَّة سيِّئَة إليهم، وحتى لا يتأثرون منه بخُلُق رديءٍ. ولذلك كانت تلك القِيَمُ الفاضلة دليلاً على المعلم وأول العلامات على استحقاقه للشُّكر، وتفرُّده بمزيد التَّقدير.
والمتأمل في وصيَّة عُتْبة بن أبي سفيان لعبْد الصَّمد “مُؤدِّب” أولاده (معلمهم) يَلْحَظُ أنَّ شَرْطَ (الأخلاق) كان حاضراً في ذهنه، وكانت عنايتُه بها مُقدَّمةً على عنايته (بالمعرفة) وطرائق التَّعليم! حيث وجَّههُ في أولها بقوله: “ليكنْ أولَ ما تبدأُ به من إصلاحِ بَنِيَّ إصلاحُ نفسِكَ، فإنَّ أعينَهُم معقودةٌ بعيْنكَ، فالحسَنُ عندهم ما استحسَنتَ والقبيحُ عندهُم ما استقبَحْتَ..” ثم عاد في ختام الوصيَّة إلى ذات القضيَّة وجوهرها (الأخلاق) ونبَّهَهُ إلى واحد منْ أهمِّ مصادر استجلابها لطلبته فقال: “ورَوِّهِم سِيَرَ الحُكَماءِ، وأخلاقَ الأدَباءِ..”(*).
وبالعودة إلى ابن خلدون نفسه في الفصل الثاني والثلاثين من “مقدمته” الشهيرة، فإننا نجدُه يُعَزِّزُ من شأن العناية بالقيَم في التربية، ويجعلها أساساً في تَخَيُّر أساليب التَّعليم، ويذكرُ أنَّ الشِّدةَ على المتعلمين مُضرَّةٌ بهم، وهي ــ بحسْبَ قوله ـــ “منْ سُوء المَلَكَة”! وحديث ابن خلدون في هذا المجال ينطلقُ منْ إيمانه ــ الذي لا يخالفُه فيه أحد ــ بإنسانيَّة المتعَلِّم. وتأسيساً على هذا المبدأ مضى ابن خُلدون يؤكِّد على المعلِّم أن يَرْعى القيَمَ ويُعْنى بأمر الأخلاق، بصفتها مرجعيَّة ذات أثرٍ حاسمٍ في بناء شخصيَّة المتعلِّم وتشكيل سُلُوكِه.. فيقول: “ومنْ كانَ مرْباهُ بالعَسْف والقَهْر منَ المتعلمينَ أو المماليك أو الخدم، سَطا به القَهْرُ، وضيَّق عن النَّفْس في انبساطها، وذهبَ بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحملَهُ على الكذب والخُبث، وهو التَّظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقَهْر عليه وعلَّمَه المكْرَ والخديعةَ لذلك، وصارت لهُ هذه عادةً وخُلُقاً، وفسَدَت معاني الإنسانيَّة التي لهُ… بل وكسِلت النفْسُ عن اكتساب الفضائل والخُلُق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيَّتها..”(*). وقد رُويَ عن الفاروق عمر رضي الله عنه قوله: “مَنْ لم يؤدبْه الشَّرع لا أدَّبَه الله. حرصاً منه رضي الله عنه على صَوْن النُّفُوس عن مَذلَّة التأديب. وما منْ شكّ أنَّ العُنْفَ الذي مَردُّه (الإذلال) يُقوِّضُ مقاصدُ التعليم، ويهدمُ أسُسَ التربية، ولا يُمكن بحال أن يُخرجَ مُتعلمينَ صالحينَ لخدمة أوطانهم! وهنا لا يُمكن لنا أنْ نَركَنَ إلى (صلاح القصْد) فإنَّ الوسيلةَ غيرُ صالحة.
وفي بعض “رسائله” يقول الجاحظ: “فالناسُ يختلفون في جهة الطَّاعة، فمنهم مَنْ يُطيعُ بالرَّغبة ومَنْ يُطيعُ بالرَّهبة، ومنهم مَنْ يُطيعُ بالمحبَّة، ومنهم مَنْ يُطيعُ بالدِّيانة”. وهذه الأصناف وإنْ كان أفضلها طاعة الديانة، فإنه ما منْ شك أن مفهومَ الطاعة (بالمحبَّة) هي الأولى بأن تكون منهجاً لكل معلم في تعامله مع طلبته. وأما الطاعةُ (بالرَّهبة) في حديث أبي عثمان الجاحظ فهي معلومة لكل أحد؛ بحسب الفوارق التي جُبلَ البَشَرُ عليها، ولكن (الرَّهبة) في العُرْف التَّربويّ الناضج رَهْن بحِكْمة المعلم المُربي نفسه، وبطبيعة المتعلِّم وخصائصه النَّفسيَّة، وطبيعة الموقف التَّعليميّ، واختيار نوع الترهيب الذي يجب أن يبتعد في كل حال عن معاني (الإذلال) الذي لا يليق بمبدأ التَّربيَة القَويمة ومفهُوم التَّعليم الخلَّاق.
إنَّ حديثَنا عن المعلم لا يُمَلُّ؛ لأنَّه ذلك الإنسانُ الذي يجلس أمامَه الصغيرُ والكبيرُ، ويفيدُ منه الغنيُّ والفقيرُ، ولأنَّ المعلمَ يتتلمذُ عليه كلُّ أفراد المجتمع، لمْ تستغْن عنه أمَّة منَ الأمَم، ولمْ يخْلُ مُجتمع من وجوده، ولا يُمكن لكل الذاريات أن تطْمسَ أثرَه، هو ذلك الإنسان الذي يرسمُ المستقبل ويشكلُه، بنقشه للقيَم في النَّشءِ منذُ الصِّغَر.. تلك القيم التي تُزهر في الأرجاء، فتنتشلُ البَشَر منَ التباغض لتسوقَهم لمرافئ الصَّفاء، تلكَ القيمُ التي تغذو الأرواحَ، وتروي النُّفوسَ، وتصنعُ إكسيرَ الحياة الكريمة.
لكل معلم في كُل موقعٍ يشغلُه داخلَ حُجرات الدراسة أو خارجَها.. أنت اليوم كما كنت بالأمس، يتشوَّفُ الجميعُ إلى عطائك.. ويمنحُك الجميعُ الاحترامَ، يُقدرون الجهدَ الذي تبذلُه ويستبشرونَ بمخرجاته.. واعلم أنَّ وطنَكَ الكريمَ يُعْلي منْ شأنك، ويحفظُ لكَ منزلتكَ.. وأنَّ النهضةَ التي تعيشُها بلادُكَ والتَّطورَ المتسارع الذي تشهدُه، كلُّ ذلك يدفعُ بكَ تجاهَ الالتزام بقيَم المجتمع الراسخَة التي تولَّدَت منْ عقيدة نقيَّة، ومنهجٍ وسطيٍّ مُعتدلٍ، وهُويَّة عربيَّة تمثَّلَت مكارمَ الأخلاقِ في أبهى صُورها. ولا تَغْفَلَنْ عن التَّفنُّن في الوسائل، والابتكار في طرائق التَّدريس، وإذكاء مهاراتكَ في القيادة التربويَّة بمفهومها الشَّامل.. والتوسُّع في اكتساب المعرفة وإكسابها لمنْ عهدَ الله إليكَ تعليمَهُم، وتقويمَ سُلوكهم، وتفتيق مداركهم؛ ليكتشفوا المستقبلَ، ويستعدوا للتَّحدي وخوض المنافسة، وبناء حضارتهم على أساسٍ منَ السُّلوك القَويم، والمنجز العظيم. وهيِّءْ نفسَكَ لتواكبَ الغَدَ الذي يستشرفُهُ الوطن؛ فثَمَّة حقيقة كونيَّة مفادُها أنَّ عِظَمَ الحضارة وتنامي العمران، وتنوعَ وسائل الحياة ومتطلباتها.. يفرضُ التكاثُرَ في أصناف العُلوم، ويُغْري بتنوُّع الفُنون.. وهذا هو اليوم واقع بلادك المباركة (المملكة العربية السعودية) أدامَ الله عليها نعمَهُ ظاهرةً وباطنةً وباركَ في قيادتها الرشيدة المُلْهِمَة.
أخي المعلم، أختي المعلمة..
ألا يكفيكما اليوم أنَّ مجلس الوزراء برئاسة الملك يحفظُه الله (أعرب بمناسبة يوم المعلم العالمي عن تقديره لجهود المعلمين والمعلمات ودورهم التَّربوي في بناء الأجيال، وتكوين مُجتمع يُسْهمُ في تَنْميَة الحاضر، ويصنَعُ مستقبلا زاهرا للوطن)؟!
-مكة المكرمة20ربيع الأول 1445هـ المصادف 6أكتوبر2023م