شدني شخصياً سؤال هام في إحدى المجموعات الإعلامية الراقية حول أهمية الجاهة، وفائدتها، فانطلقت بي الذاكرة مباشرةً لموقف قديم جداً سمعته عن العمدة القدير العم عبدالله بصنوي _يرحمه الله _ يتلخص في قصد رجل له؛ للمساعدة في طلب الشفاعة لدى أسرة من إحدى القبائل المكية العريقة بعد وفاة أحد أبنائها في حادث سير غير متعمد فما كان من العمدة البصنوي إلا تلبية الطلب والذهاب لمقر العزاء لمدة ثلاث أيام متتالية وهو مشارك مع أهل الميت في مصابهم الجلل فيمكث يومياً من بعد صلاة المغرب حتى وقت صلاة العشاء فيذهب ليعود في اليوم التالي وقد لفت أنظار أهل الميت تواجد العمدة البصنوي دون أن يتعرفون على شخصه الفاضل في حينها وبعد انتهاء مراسم العزاء تماماً توجه العمدة البصنوي إلى أهل الميت وطلبهم قبول الشفاعة بكل رجاء وأمل في التنازل عن الطرف الآخر فما كان منهم إلا قبول شفاعته مباشرة؛ لمعرفته التامة بالأعراف والعادات والتقاليد، ولمشاركتهم في مصابهم العظيم، ولم يتغيب ولو ليوم واحد عن مقر العزاء مما كان له أكبر الأثر الكبير في نفوسهم، ولذلك كانت الاستجابة سريعة فجزى الله الجميع كل خير.
وعوداً على بدء حول سؤال المجموعة الإعلامية عن أهمية ما يعرف بالجاهة وفائدتها فكانت وجهة نظري الخاصة تنطلق في معرفة دوافع هذه الجاهة الحقيقية وإنسانيتها، نعم أشدد على إنسانية أهل الجاهة بمعنى حسن خلقهم، ومدى نبلهم، ومعرفة طرق الإصلاح في رأب الصدع بين طرفي النزاع، ومدى التزامهم في المشاركة في مواساة أهل الميت منذ اللحظات الأولى للفاجعة، وأيضاً عدم توجههم إلى تغليب الباطل على الحق، أو قهر طرف لحساب طرف آخر وخاصة في القتل العمد، أو الاستهتار بمشاعر الآخرين، فباختصار إذا كانت جهود هذه الجاهة تهدف إلى الإصلاح والإحسان والمعروف فهي محل ترحيب وتقدير من الجميع، بل من المأمول استمرار جهودها الموفقة في كل ظرف ووقت وحين، أما إن كانت جهودها في الإصلاح مبنية على ظلم وجور ومنافع خاصة فمن الأفضل التحذير منها، وعدم التعامل معها بكل الظروف، وإلى رحيلها إلى حيث لا رجعة.
إن من يراعي مشاعر أهل القاتل سواء من جهة الأب أو الأم أو الأخ والأخت وغيرهم من الأقارب له مبرره في ذلك والتعاطف معهم… نعم هي مشاعر صادقة وحقيقية ولهم كل الحق في الخوف على ابنهم أو حتّى ابنتهم من القصاص الشرعي، ولكن في الجهة المقابلة هناك أيضاً أب وأم وغيرهما لهم مشاعر تكاد تكون أولى وأحق في الحزن والألم والأسى على فقيدهم الغالي فلم يكن له أي ذنب في قتله على الأغلب إلا لدفاع عن دين، أو نفس، أو عرض، أو أي حق آخر، ويأتي مابين الطرفين أهل الجاهة وهما مابين الجاهة المحمودة، والجاهة المذمومة في مساعيهما، فكلما كانت المساعي المتتابعة تنطلق من مبادئ راسخة وقيم سامية فهذه نعم الجاهة، وكلما كانت تنطلق عبر مظالم ومفاسد ومصالح خاصة فهي بئس الجاهة فلا تُعطى أي اعتبار، ولا يُسمع لها أي صوت، ولا تنازل عن الحق مهما كان الأمر فحرمة دم المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة، بل زوال الدنيا أهون عند الله من قتل المسلم، وقتل النفس المعصومة من أكبر الكبائر. نسأل الله السلامة والعافية لكل مسلم ومسلمة.
خاتمة:
قال الله تعالى في محكم التنزيل:” من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً” آية (32) سورة المائدة.