هل حاوَلْنا – ولو للحظةِ- أنْ نتخيَّلَ حياتَنا بدونِ كهرباءٍ؟ أنْ نتصوَّرها بدونِ هاتفٍ؟ أنْ نفكِّرَ فيها بدونِ سيارةٍ ولا طائرةٍ؟
هل تأمَّلْنا يومًا كيفَ ستكونُ أحوالُنا لو لم تكنْ هناكَ أجهزةُ أشعةٍ، ولا مختبراتُ تحليلٍ، ولا موادُّ تخديرٍ، ولا أدواتُ تعقيمٍ وجراحةٍ؟
هل شَعَرْنا – ولو لمرةٍ – كيفَ كنَّا سنعيشُ لو لم نمتلكْ أقلامًا وأوراقًا، وأجهزةَ تصويرٍ، وحواسيبَ، وطابعاتٍ؟
إنَّ هذهِ المنجزاتِ الاستثنائيةَ التي غيَّرَتْ وجهَ الحياةِ، ونقلتِ البشريةَ من حالٍ إلى حالٍ، يقفُ وراءَها رجالٌ عباقرةٌ، جمعوا عِلْمًا وعملًا، وذكاءً وجِدًا، واستطاعَ كلُّ واحدٍ منهمْ أنْ يَخْطُوَ بالإنسانيةِ خطوةً إلى الأمام.
آمنَ هؤلاءِ بالعلمِ .. وأَخْلَصُوا له .. فأثمرَتْ أشجارُهُمْ .. فسبحانَ من علَّمهُم!
(سبحانك اللهمَّ خيرَ معلمٍ … علمتَ بالقلمِ القرونَ الأولى
أَخْرَجْتَ هذا العَقْلَ من ظُلُمَاتِهِ … وهَدَيْتَهُ النُّورَ المبينَ سبيلا
أَرْسَلْتَ بالتوراةِ موسى هاديًا … وابنَ البتولِ فعلَّمَ الإنجيلا
إنَّ في دينِنا الإسلاميِّ العظيمِ أُصولًا كثيرةً تحفِزُ أبناءَ هذه الأمةَ على الاختراعِ والإبداعِ.
أولُ هذه الأصولِ أصلُ الإتقانِ .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله يحبُّ إذا عمل أحدُكم عملًا أن يُتقنه).
وثاني هذه الأصولِ أصلُ المسابقةِ في الخيرِ… قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة: 148).
وثالثُ هذه الأصولِ أصلُ أحقيَّةِ السابقِ فيما سبقَ إليه.. جاءَ في الحديثِ: (مَنْ سبقَ إلى مُبَاحٍ فَهُوَ أَحَقُّ به).
ورابعُ هذه الأصولِ أصلُ الأجرِ الأخرويِّ في باب التعلُّمِ والاختراعِ، فالمخترعُ المسلمُ مأجورٌ لأنَّهُ يطلبُ العلمَ، ومأجورٌ أيضًا لأنَّه يدخل السرورَ على قلوبِ الناسِ، بقضاء حوائجهم، وتفريج كربهم.
وبهذه المعاني الجليلةِ ترسَّخَتْ في هذهِ الأمةِ المسلمةِ روحُ الابتكار والاختراعِ، فسجَّل التاريخُ بأحرفٍ من نورٍ أنَّ الريادةَ الأولى في كثيرٍ من المخترعاتِ كانتْ لعلماءَ من هذهِ الأمةِ العظيمةِ، فالكاميرا، وأجهزةُ التقطيرِ، وأدواتُ الجراحةِ، والساعاتُ الميكانيكيةُ، والتخديرُ، والطواحينُ الهوائيةُ، والتطعيمُ، ونظامُ الترقيم، والأُسْطُرْلابُ، والبصريَّاتُ، والعقاقيرُ الكيميائيةُ الفعالةُ، وعلمُ الجبرِ، واللوغاريتماتُ، والمراصدُ الفلكيةُ، وعلمُ الاجتماعِ .. كلُّ هذهِ الأولياتِ وأضعافُها كانتْ من نِتاجِ هذهِ الأمةِ المختَرِعَةِ، وقد حفظَ سجلُّ فخارِها أعلامًا كالبيرونيِّ، والرازيِّ، وابنِ النفيسِ، وابنِ البيطارِ، وابنُ زُهْر، وابنِ الهيثم، والخوارزميِّ، والإدريسيِّ، وابنِ قُرَّة، وغيرهم ممن تركتْ مخترعاتُهُم أثرَها الواضحَ في مسيرةِ البشريةِ، وصدقتِ المستشرقةُ الألمانيةُ زِيْغْرِيْد حين قالت عن العالمِ الإسلاميِّ: “يَدينُ له الغرب كما تدينُ له الإنسانيةُ كافةً بالشيء الكثير”.
ورغمَ الخمولِ الحضاريِّ الذي أصابَ أمَّتَنا في هذه المرحلةِ من تاريخِها، إلا أنَّ بوارقَ الأملِ لم تزلْ تلمعُ هنا وهناكَ.
ولعلَّ تَوَجُّهَ حكومة خادمِ الحرمينِ الشريفينِ الملك سلمان وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان – حفظهما اللهُ – لتحويلِ اقتصادِ المملكةِ من الاقتصادِ الرَّيْعيِّ إلى اقتصادِ المعرفةِ هو إحدى هذهِ البوارقِ المبشرةِ، فقد حفَزَ هذا التوجُّهُ الجامعاتِ ومراكزَ الأبحاثِ والمؤسساتِ المتخصصةِ إلى تحريكِ عجلةِ الاختراعاتِ، والاهتمامِ بأصحابها، والاجتهادِ في توفيرِ السبلِ لتحويلِ أفكارهم الإبداعيةِ إلى مُنتجاتٍ حقيقيةٍ تَدْفَعُ بهم وببلادهم، وبالبشريةِ إلى مستقبلٍ أفضلَ.
0