بعيدًا عن الشماتة وجلد الذات، فإن العقل العربي الجمعي والفردي لم يعد يتقبَّل ما آلت إليه أحوال العرب اليوم من خلافات أكل عليها الدهر وشرب، تمظهرت في انشقاقات، ومحاور متناقضة، وتقلبات في العلاقات البينية بما يشبه تغير المناخ، والتي جلبت على العرب البلاء الاختياري والمتاعب الوجودية في كل الاتجاهات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والحضارية.. إلخ، وبلغت حدًا لا يُطاق أتاحت للأجنبي الغريب أن يدس أنفه القذر في إدارة مشاكل العرب؛ وكأنه وصي عليهم، ويا ليته يسعى في حل مشاكلهم بقدر ما يزيدها تعقيدًا، إذ لم يسبق لأي مندوب أمريكي أو أممي حل أزمة عربية واحدة، وشواهد ذلك أكثر من أن تُحصى وتُعد وشواهد ذلك الخلافات العربية: في الصحراء المغربية، وسوريا، والعراق، واليمن، والسودان، وليبيا، ويضيق المقام عن عرض دسائس أمريكا والأمم المتحدة وأساليبهم الملتوية ووسائلهم المنحرفة في تعقيد أزمات العرب وتعميق الشقة بينهم والوصول بها إلى آفاقٍ مسدودة تمامًا، ولا مندوحة بعد هذا التراكم من الخلافات المأساوية التاريخية وردودها التسناموية، من وضع النقاط على الحروف والخلوص من هذا الواقع المأساوي إلى نقلة نوعية في العلاقات العربية المعاصرة؛ حيث أصبحت الخلافات تقض مضجع كل عربي حر أصيل، وأحسب أن إفراغ لوائح المؤسسات العربية وأنظمتها من محتواها مثل: الجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي باشتراط الموافقة بالإجماع على أي إقرار، مزَّقت العرب شر ممزق، ووضعت هذه البدعة السياسية حل مشاكل العرب في حكم المستحيل كما يُقال: (وضع العربة أمام الحصان)، وهو شرط غريب لا يتفق مع بديهيات العقل والمنطق والوعي، ولا يُعرف له مثيل في التاريخ البشري، مما أفرغ القرارات العربية من محتواها، حيث ينفض كل اجتماع كما بدأ دون فائدة تذكر، سوى عرض مراسم الاستقبالات الرائعة، وأحيانًا مرافقة الطائرات العسكرية (طائرة الزعيم الزائر) وإطلاق المدفعية ٢١ طلقة، وصالات الاستقبال الفخمة والمزينة بالورود الطبيعية، والمآدب الدسمة التي يسيل لها اللعاب، والأضواء الرائعة والخطب الرنانة، وينفض كل اجتماع كما بدا دون فائدة تُذكر وهكذا دواليك، ويمكن إنزال نموذج ذلك على سائر الاجتماعات العربية البينية، مما سمح لأمريكا وما يسمى بالأمم المتحدة بفرض الوصاية على العرب وتحييدهم وإدارة مشاكلهم بالنيابة عنهم من حيث لا يعلمون، وأمام هذا الخلل البنيوي بكل معانيه وأبعاده ومجالاته، لا خيار سوى اقتباس الحكمة من المؤسسات والاتحادات الناجحة، ويأتي في طليعتها الاتحاد الأوروبي، الذي شكَّل أنجح اتحاد عبر التاريخ، مشفوعًا بمحكمة عُليا، وبرلمان وجيش موحد، وعملة موحدة (اليورو) دون التناقض مع الاستقلالية الوطنية لكل دولة على حدة، وضعف القرار العربي وتكلسه وعقمه، انعكس على (ضعف الدولة العربية المعاصرة) من الداخل، فرأينا أحزابًا ومؤسسات وأفرادًا من العرب يمحضون الولاء لغير أوطانهم، ويغردون خارج السرب؛ مما ساعد على ظهور الطابور الخامس وتوسعه بصورة مخيفة، وهذا بعينه الذي ساعد كل من يطمع في زعزعة الأوضاع الأمنية والسياسية داخل البلاد العربية، وأقرب مثالٍ على ذلك، انقسام الولاء من بعض العرب لغير أوطانهم، وقيام بعضهم بإشعال الحروب بالنيابة عن المقاول الأصلي لتمزيق الوطن الأم، إما للغرب أو الشرق ويُمثل الثلاثي الشرير (أمريكا – إسرائيل -إيران) أخطر العناصر الجهات فسادًا وتدخلًا داخل الدول العربية، بسبب ضعف وعقم القرار العربي الذي أنيط به شرط الإجماع لإقراره وتنفيذه ….
فمتى تشرق شمس العرب من جديد، على وحدة حقيقية تُعالج الأمراض والأزمات العربية المستعصية من خلال القرار القوي، بدون عواصف ولا رياح هوجاء، وتوصد الأبواب دون تدخل الثلاثي الشرير في شؤون العرب ؟؟؟؟!!!!!…
أ.د غازي العارضي