سؤال مجرد
ما أقسى الحياة.. عندما تسفّه وتصادر كينونتك وإنسانيتك وذكرياتك وأحلامك ومشاعرك وأحبابك ومكتسباتك وحقك في الحياة، وتحولك إلى مجرد رقم مدون على قصاصة مربوطة على إبهام إحدى قدميك في ثلاجة موتى.. لأنك لم تكن شيئًا في حسابات البعض سوى “ضرر جانبي” في حربٍ لم تكن حربك.. لم تحمل فيها بندقية ولا تعرف من تسبب في تكويم كل هذا الرصاص حولك وهدم كل جدران أمانك.. وفي صراعٍ لم تفكر به ولم تخطط له ولم تخضه.. وفي نزاعٍ لم تفتعله ولم تبع فيه أرضًا ولم تخن فيه ترابًا ولم تقبض عليه ثمنًا.. ولم تنل حتى حق أن تعرف شخصًا قاتلك ولماذا قـتلك؟
وكل ذنبك.. أنك تريد الحياة.. وتريد وطنًا.. الحد الأدنى من الأحلام المشروعة.. لم تصل فيها حتى إلى رفاهية تفاصيلها الصغيرة.
كل ذنبك.. أنك ولدت في وطنٍ اغتصِب فيه كل شيء: التراب وحق البقاء فوقه.. الهواء وحق تنفسه بحرية.. الكرامة وحق استردادها.. القرار وحق تقرير المصير.. حتى المال والرغيف وعلبة الدواء وبطانية الشتاء التي تقدمها لك يدٌ بيضاء شعرت عن بُعد بحاجتك وألمك.. ينهبها ويأكلها ويتدفأ بها غيرك ممن كنت تظنه يحميك ويدافع عنك ويصون كرامتك، ويجوع لجوعك ويتألم لألمك.. لكنه خذلك.
كل ذنبك.. أنك طفل يحمل أحلام مستقبله وفطيرة زعتر في حقيبة مدرسة على ظهره.. فاستكثروها عليك.
كل ذنبك.. أنكِ أم كل ما تنتظره هو عودة صغيرها من المدرسة.. ورؤيته يكبر لتزف إليه عروسه ورؤية ولده الأعز منه.. فاستكثروها عليك.
كل ذنبك.. أنكِ بنوتة تشبهين الأحلام وأجنحة الفراشات في الروايات.. ترى السماء كلها وطنًا.. فاستكثروها عليك.
كل ذنبك.. أنك عليلٌ تنتظر اللحظة التي يوقع فيها طبيبك إذن مغادرتك للسرير الأبيض في مستشفى لا يجهل مطلقو الصواريخ عليه إحداثياته.. فاستكثروها عليك.
كل ذنبك.. أنك امتد بك العمر وأرهقتك الحياة وكنت تبحث عن منديل يجفف عن تجاعيد جبينك عرق السنين التي لم تذق فيها طعم الراحة.. فاستكثروها عليك.
كل ذنبك.. أنك أحد أبناء غزّة الجريحة.. التي تأبى أن تطيب جراحها.. وحتى لو تعافت ولم ينكأها العدو الغاصب نكأها ابنٌ عميل باعك وباعها لمن لا تشبه ملامحه ملامحك.. ولا دمه دمك.. ولا عرقه عرقك.. واستكثرها عليك.
كل ذنبك.. أنك ابن غزّة التي اغتصبت مرتين.. الأولى من الكيان الصهيوني المحتل.. والثانية من “حماس” التي والت إيران على حساب عروبتها وعروبتك واتبعت جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية.. وضحت بك ولا يضيرها إن مات كل أهل غزة مقابل رضاء الملالي ومقابل الإفراج عن أحد عناصرها في السجون؛ لأنه إخونجي ولأنه حمساوي وليس لأنه غزّاوي وبالتأكيد ليس لأنه فلسطيني.
“حماس” التي كانت تعلم علم اليقين أن ما فعلته في 7 أكتوبر في ظل عدم تكافؤ القوى بينها وبين الكيان المحتل.. ستدفع أنت وأهل غزة ثمنه غاليًا.. “حماس” التي أعطت الذريعة لعدو صهيوني همجي تقف وراءه دول عظمى.. لست أنت ضمن حساباتها أبدًا.. حتى العالم الذي يصف نفسه بالمتحضر ويتشدق بحقوق الإنسان ليل نهار لا يراك إلا “ضررًا جانبيًا”.. وحتى الأمم المتحدة لا تراك إلا “ضررًا جانبيًا”.. وحتى مجلس الأمن لا يراك إلا “ضررًا جانبيًا”.. و”حماس” والفصائل الفلسطينية التي تخرج عن سياق الدولة وشقت الصف الفلسطيني لا تراك إلا “ضررًا جانبيًا”.. وحتى إيران التي تدعم “حماس” وكل أذرعها الإرهابية في المنطقة لا تراك إلا “ضررًا جانبيًا”.. فعلام كل هذا الصراخ.. “مُت وأنت ساكت لا تزعجهم”!.