المقالات

تداني القلوب.. هو المطلوب.!

النفس الإنسانية في مراحلها المختلفة حريصةٌ و مولعةٌ بحب التداني؛المرتبط بالتئام الشمل الجمعي في محيط اجتماعي واحد؛ ونسيجٍ متكامل من صفاء المودَّات؛
كما هي (مولعة بحبّ العاجل)؛وفقاً لنظرة الشاعر جرير في بيته المشهور.
إِنّي لَآمُلُ مِنكَ خَيراً عاجِلاً
وَالنَفسُ مولَعَةٌ بِحُبِّ العاجِلِ!
مولعةٌ بحب التداني ومراسيمه الحميمة؛ومبغضةً للتنائي وأسبابه وبواعثه وما إلى ذلك.
وفي التداني حياةٌ وهناء؛كما أنَّ التنائي بؤسٌ وشقاء.
وفي وصف الله تعالى لأهل الجنة مايشي بروح التداني وحلاوته كما في قوله جلّ ذكره:(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)
حيث إن التقابل هنا؛من شأنِه أن يدور في ذلك الفلك الإنساني الحميم.
وفي الإطار نفسه جاءت إلماحة الشاعر القديم :
فَإِن تَدنُ مِنّي تَدنُ مِنكَ مَوَدَّتي
وَإِن تَنأَ عَنّي تَلقَني عَنكَ نائِيا!
بيد أنَّه جعل التداني مشروطاً؛باستجابة الطرف الآخر؛وأبى عليه اعتداده بنفسه أن يكون هو المبادر بالسَّعي؛وكذلك جعل التنائي مكبَّلاً بالقيود النفسية.
وفي حديث المصطفى المتعلق بالهجران الزائد عن ثلاث ليالٍ ؛ورد قوله صلَّى الله عليه وسلَّم :« وخيرهما الذي يبدأ بالسَّلام »؛ وفي هذا التعبير تنويهٌ بالطَّرف المبادر ؛وإشادة بصنيعه الجميل ؛ وتواضعه النبيل ؛ حين يحمله السلام النفسي على تجاوز الغيوم الداكنة التي غلَّفت سماء العلاقة.
وفي هذا الجو الدرامي الغامر ؛ استرعى انتباهي بيت لامع للشاعر الجهير الشريف الرضي ؛جاء خاتمة أبيات قصيرة له؛بلغ عددها ستة؛وهو قوله:
إذا تَناءَتْ بنا قلوبٌ
فلا تَدَانَتْ بنا ديار!
ولمن يمعن النظر في تراكيب البيت ؛متفحصاً ومستجلياً دلالاته القريبة والبعيدة؛سيتجلَّى له على الفور مايسمى عند فصحاء العرب: (بلاغة الإيجاز )؛حيث تبدو الألفاظ هنا موجزة جداً؛ (معدودة على الأصابع)؛كما يقال في أحاديثنا العامَّة.
وستبدو كذلك خلوّها من الصور والتشبيهات؛إلى جانب أسلوبها الشرطي، وحضور صيغة الجمع (نا المتكلمين) ؛وفنّ المقابلة؛كلُّ ذلك تستريح إليه العين وهو بعيدٌ عن الزخرفة اللفظية؛والأناقة المبالغ فيها.
ومع إيماننا بأهمية الأدوات الفنية وقيمتها العالية في العمل الفني والارتقاء به ؛يظلُّ عنصر صدق عاطفة الشاعر أو المتكلم وتوهجها في صدارة تلك الأدوات الضرورية.
ولذلك نستطيع أن نقول إنَّ فوران وموران عاطفة الشاعر الشريف الرضي هي (نقطة ارتكاز البيت)؛ المشار إليه آنفاً؛أو بتعير آخر حجر أساس التجربة التي خاض غِمارها.
وبها استطاع لفتَ الأنظار إليه.
فإذا يممنا باتجاه المعاني وظلالها المنداحة في البيت نفسه؛ أدهشتنا غزارتها؛ وتتابع دلالاتها؛وذلك على عدة مستويات ؛من أبرزها في تصوري:
1-(نأي القلوب) في الشطر الأول !
وللتفتيش عن عوامل نأيها عن بعضها البعض ؛سيستغرق الحديث صفحات طويلة من الكتابة النثرية؛ابتداء من أنواع النأي؛أسبابه ودوافعه؛الأمكنة والأزمنة؛الوقائع؛طبيعة العلاقات القائمة بين الأطراف …الخ
2-فقدان الرغبة في تداني الديار في ظلِّ تباعد القلوب ؛كما في الشطر الثاني
ولو أطلقنا الأعنة لخيالاتنا ؛من منطلق التفكير في :اتساع المسافات بين ديار الأحبة؛وانصهار المشاعر القلبية في أتون الانتظار؛وانكشاف الطبائع والأخلاقيات؛والسلوكيات؛عوامل الجفاء ؛التنافر؛الأوجاع؛ والخصومات ؛المنافسات؛المكائد؛ الدسائس؛الزهد التام في عودة الشمل الملتمّ ؛سيستفيض بنا الحديث النثري إلى حدودٍ بعيدة.
-التصدير بالأداة (لا)؛منح الشطر سيولةً في المعنى..
نخلص من تلك الرحلة القصيرة إلى مايلي:
اتصف بيت الشاعرة بغزارة المعاني في الألفاظ القصيرة؛ وهو مايسمى بلاغياً (بجوامع الكلم)؛وهي ميزة بيانية رفيعة؛ اختصَّ الله بها سيد الخلق أجمعين ؛نبينا الكريم صلَّى الله عليه وسلم؛فجاءت سلسلة طويلة من أحاديثه موجزة ومعبّرة؛فضلاً عن دقتها المتناهية.
كقوله عليه الصلاة والسلام:«المسلم من سلم المسلمون من يده»؛وكقوله:
«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
ومن ثمَّ أتاح الله للبلغاء من الشعراء والكتاب أن ينهلوا من ذلك المنهل ؛ كالشريف الرضي وغيره.
وتبارك الله القائل في محكم كتابه:(وما كان عطاء ربك محظورا).
بقي أن أقول إنَّ كاتب هذه السطور؛استأذن من الشريف الرضي ؛في التصرّف في بيته ؛حسبما يمليه عليه الموقف؛على هذه الهيأة:
إذا تَدَانَتْ بنا قلوبٌ
فما تَناءتْ بنا ديار!
وقد جاء تصرفي هذا إيماناً مني بمسألة (دنو القلوب)؛ في المقام الأول والأخير.
وعفا الله عن القائل :«وتبقى حزازاتُ النفوس كما هِيا»
وإذا صحَّت المودة في القلوب؛وثبتت أركان المحبة كالجبال الرواسي ؛هان على النفس طول المسافات؛وغياب الأحباب؛ وساهم الأمل في التلاقي في الحدّ ؛من الوقوع في براثن اليأس والحرمان وألوان العذابات..
وفي ذلك يقول الشريف نفسه؛في موضع آخر:
لَيسَ الغَريبُ الَّذي تَنأى الدِيارُ بِهِ
إِنَّ الغَريبَ قَريبٌ غَيرُ مَودودِ!
ولعلكم ترون هنا الفكرة ذاتها؛ولكن بصيغة بيانية أخرى؛ولحن موسيقي مختلف؛وجو نفسي له طقسه الخاص..
للشريف الرضي مني التأييد والإشادة ؛ وللأحبة القرَّاء أمنيات الخير والسَّعادة.

محمد سلطان الأمير

شاعر - معلم لغة عربية - مكة المكرمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى