النصّ:
ما غادرَ الشهداءُ
كأسَكِ في فمي !!
قَدَراً سأُنبتُهم
لمن شخبوا دمي
يا كرمة التاريخ ،
زيتٌكِ ناصعٌ
كالنور، أولُهُ
وآخرُه : كَمِيْ
الأرضُ توحي للسماء،
تَصَعَّدي :
يا آهةَ القهرِ
القديم الآدمي
يا آيةَ التهجيرِ
والتغريبِ
والكيلِ المطففِ
في الضمير العالمي
يا جرحَ أمتنا النزوفِ،
وصرخةَ الأمِّ الثكولِ ،
ويا دموعَ اليُتَّمِ
يا دوحة البركات ،
سبحان الذي
أهداكِ أقداسَ
الجلالِ المريمي
مدِّي من الإسراءِ
روحَكِ واعرجي ،
إن السماءَ
سخيةٌ ، فتسنَّمي
يا حُرَّةً ، ستُرَبِّقُ
الباغين في
طغيانهم ،
ومصيرهم لجهنمِ
يا عِزِّةً ،
سَتُذِلُّ كلَّ مكابرٍ،
ليبوءَ بالخسرانِ
كيدُ المجرمِ
الأرضُ أرضكِ ،
وانتصاركِ قادمٌ ،
وسيوقنُ التاريخُ
بعد توهمِ
ويُقيمُ طفلُكِ
في العلوِّ خلودَهُ ،
وجذورُهُ مغروسةٌ
في الأنجمِ
_____________
-القراءة التحليلية:
في التراث العربي يروي الشاعر أبو عامر بن شُهيد هذه الحكاية عن نفسه
فيقول :«عاتبت مرَّة من المرَّات بعض الإخوان عتاباً شديداً عن أمر أوجع فيه قلبي؛وكان آخر الشعر الذي خاطبته به هذا البيت
وإني على ما هاج صدري وغاظني
ليأمنني من كان عندي له سر !
فكان هذا البيت أشدَّ عليه من عضِّ الحديد ؛ولم يزل يقلق به حتى بكى
إليَّ منه بالدموع!!».
وللناقد الفرنسي «سانت بوف» مقولةٌ ذات رنينٍ سائغ يشير فيها إلى طبيعة الشعر وخاصيَّته المرهفة؛يسوقها على هذا النحو :
«إن الشِّعر خلاصة كل شيء وجوهره؛فحذارِ أن نغمر هذه القطرة النفيسة في بحرٍ من الماء أو طوفان من الأصباغ والألوان».
ويمضي قائلاً:
«وليس الأصل في الشعر الاستقصاء في الشرح والإحاطة في التبيين، ولكن الأصل فيه أن نترك كلَّ شيء للخيال.»!
بيتُ ابن شهيد إذن ينطوى كما نرى على علاقة صداقة اصطبغت بالنزاهة انعقدتْ بينه وبين صديقه في السَّابق؛هذه العلاقة استدعتها القوة المتخيلة على كثافتها فاستنزلت دموع صديقه!
وإيماءة الناقد الفرنسي هنا ؛تسعى إلى تنقيةِ ماء الشعر من الشروحات المطوَّلة واستثمار طاقة الخيال؛وهي في نظره العمود الفقري للتجربة الشعورية.
وفحوى تلك الإيماءات في تلاقيها
أنَّ للشعر تأثيراً فعَّالاً؛يكمن في الكهرباء التي استطاع الشاعر بثَّها في أبيات قصيدته..
تفضي بي تلك الإشارات الخاطفة إلى التأكيد على حرارة التأثير الناجمة عن (كرمة التاريخ) النص الذي بين يديَّ الآن باعتبارها جاءت مواكبة للأحداث الجارية السَّاخنة؛والمنعطفات الحادَّة التي يمرُّ بها واقعنا العربي.
إنَّ محاولة استجلاء نص شاعرنا هنا ؛ ستنطلق بي من مرجعياته التي يحيل إليها أوعليها ؛والأبعاد الإنسانية التي اتحدت في ذات الشاعر مع الأحداث التاريخية المعاصرة فيما يتعلق بمؤامرات الصهاينة؛وما تشهده الأراضي الفلسطينية؛ومدينة (غزَّة) من تعذيب وتنكيل ووحشيةٍ فظيعة..
ولعلّ أولى المرجعيات التي استثمرها شاعرنا هنا هو اتِّفاقه الملحوظ مع معلقة عنترة بن شداد «هل غادر الشعراء من متردّم »؛هذا الاتفاق في البحر والقافية يوحي بأنَّ شاعرنا يرى في ذلك التناصّ المقصود إثراءً لنصه وتعميقاً وتوسيعاً لفضاءاته القولية إلى جانب إدراكه اليقظ أن ينبوع التراث دائم التفجر؛وهو بمثابة الأرض الصلبة التي يؤمن بأنَّ الوقوف فوقها سيرسخ حاضره الشعري وسيغني رؤيته الشعرية لامحالة،إذ إنَّ استخدام الرموز التراثية من شأنه أنْ يكسب الشعر جدَّة وطرافة ويمنحه الدينامية المطلوبة وفقاً لما يراه معظم النقاد والباحثين في هذا المضمار.
انطلاقة عنترة البطولية المشار إليها آنفاً بدأت بالاستفهام التقريري؛وانحصرتْ في شعراء عصره وسابقيهم ؛كما في قوله:
هل غادر الشعراء من مُتَرَدَّم؟
أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ!
إزاء ذلك البيت؛يذهب الكاتب الشاعر المصري:محمد أبوزيد في مقالة له تناول فيها ذلك البيت بقوله:
«هذا هو وَجَعُ كلِّ شاعرٍ، كلِّ فنانٍ، ذنبُه، لَعْنَتُه التي تُطارِدُه حتى يموت، كلما فكَّر أن يكتب نصًّا جديدًا — لم تطأه قَدَمُ بَشَرٍ مِنْ قَبْلُ — يكتشف في آخر حرف أنه لم يَقُلْ إلا ما قِيلَ فعلًا، فيبدو كالبطل الإغريقي «سيزيف» الذي حُكِم عليه أن يدفع صخرةً عظيمةً إلى أعلى الجبل، فإذا وصل إلى القمة تدحرجتْ إلى الوادي، فيعود إلى رفعها نحو القمة، ويظل هكذا حتى الأبد؛ فأصبح رمز العذابِ الأبديِّ»
وقبل الكاتب أبوزيد نجد الكاتب المرموق :ثروت أباظة؛ يعلّق في معرض حديثه عن عنترة بقوله:«فماذا نقول نحن بعد ألفي عامٍ من مُعلَّقته؟
إذا كان عنترة يقول إن الشعراء لم يتركوا شيئًا لأحد يقوله، فماذا يفعل المُشتغلون بالفنِّ الأدبي بعد ألفي عام؟
إلّا أنه يقرر في لماحية عالية بعيداً عن الاستسلام لذلك المفهوم المتوارث قائلاً:
«ظلَّ الشعراء وقد انضمَّ إليهم الناثِرون والروائيُّون والقصَّاصون يقولون ولا ينقطِعون عن القول.»
وإذا صحَّ كلام (أبوزيد)؛وتساؤلات أباظة على قطاع كبير من شعراء المرحلة الحاليَّة ؛فإنه -من وجهة نظري- لاأراه صحيحاً على منجزات شاعرنا الإبداعية؛ أقول ذلك لأني وقفت على العديد من تجاربه؛ ولمست فن الابتكار لديه؛والقدرة على توليد المعاني؛
بعيداً عن الطنطنة والافتعال والتكلف؛ومن ذلك التصوّر جاءت معزوفة شاعرنا بانطلاقة مغايرة للشاعر الجاهلي وقضيته الحائرة المستفزَّة.
نستطيع إذن أن نقول :
إنَّ انطلاقة شاعرنا بدأت بالنفي القاطع ؛وانحصرت في شهداء فلسطين ؛و في استهلاله المؤثر:
ما غادرَ الشهداءُ
كأسَكِ في فمي !!
قَدَراً سأُنبتُهم
لمن شخبوا دمي !
____________________
عنوان النص وظلاله الموحية:
اختارشاعرنا«كرمة التاريخ» عنواناً لنصه المحتدم ؛وهوبلاشك اختيار مدروس؛إذ يتضمن هذا العنوان استحضار صورة فاكهة العنب الذي يعدُّ سلطان الفواكه؛في المفاهيم الاجتماعية السائدة؛ استحضرها هنا في مقام تشبيه القطر الفلسطيني وعلى وجه التحديد (غزَّة) هذا الجزء البطولي الصامد في وجه الترسانة الحربية للصهاينة والسالكين مسلكهم في عدائهم السافر البغيض؛
وإذا كانت حلاوة العنب حسيَّة كما نعلم ؛فهي في غزة وأهلها معنوية؛ كحلاوة الإيمان؛التي نتحسس طعمها في مقاومة أهلها الشجعان ؛ودفاعهم المستميت عن وطنهم المغتصب؛وفي التضحيات المذهلة التي ستحمل إلينا وإليهم مذاقَ النصر المرتقب ؛عما قريب بإذن الله.
إنَّ (الكرمةغزَّة) هنا تصعد إلى عرش التاريخ ؛وتعلن على رؤوس الأشهاد أنَّها لن تنصاع لهذه الشرذمة الباغية؛ولن تنقاد لألاعيبهم القذِرة ؛ولن تمنحهم حلاوتها الفاتنة؛ومهما كانت لياليها حالكة الظلام؛ ونهاراتها شاحبة فإنَّ وراء ذلك نصراً مؤزراً لاريب فيه.
كما أنَّها في اعتلائها عرش التاريخ تتطلع إلى أصحاب الضمائر الحية في العالم أجمع للالتفات إليها ،والسعي للتضامن معها في مواجهة سلسلة الكوارث والنكبات المنصبَّة عليها انصباباً محموماً لاهوادة فيه.
الأَحوال والأحداث التي تمر بها العزيزة غزَّة في نظر الشاعر تجعلها ظاهرة إنسانية من الظواهر الكونية الطبيعية.
____________________
-جو النص ومعانيه وقيمه الفنية:
يبدأ شاعرنا خطابه الشعري متكئاً على ما النافية كما أسلفت؛في هذا الاستهلال البديع:
ما غادرَ الشهداءُ
كأسَكِ في فمي !!
قَدَراً سأُنبتُهم
لمن شخبوا دمي !
هذا النفي يتركز حول شهداء الأرض المحتلّة الذين تساقطوا تباعاً أمام القصف العشوائي نتيجة تضحياتهم البطولية بأرواحهم في سبيل العزَّة والكرامة والفداء ؛ويؤكد الشاعر أنَّ لهم في ضميره الولاء المطلق؛والتأييد السخيّ ؛فهم باقون خالدون في نسيج ذاكرته؛وأنَّه ذاق رحيق كأس الشهادة معهم ؛وقرر أنه سيعيدهم -بواسطة ريشته الفنية؛وتنديده بالأعداء- إلى فلك الحياة ثانيةً نباتاً غضَّاً جديداً ؛يتجذّر في تربة الحياة الخصبة؛وسيكون في غمرات هذا المشهد الغاصّ درعاً حصينا و صوتاً داحراً ورادعاً ومفنِّداً مطامع مصاصي الدماء؛ومزاعمهم المشبوهة..
هذا الإحساس المتقد في مطلع النص ؛واستيعاب الشاعر كفاءته التقنية الملازمة لعمله ستنحو به مناحي أسلوبية عدَّة يجيء في مقدمتها ثيمات النداءات المتوالية المعتمدة على( أداة ياء)؛كما في هذه التراكيب المشعَّة :
ياكرمة التاريخ/يا آهةَ القهرِ/يا آيةَ التهجيرِوالتغريبِ والكيلِ المطففِ/
يا جرحَ أمتنا النزوفِ،وصرخةَ الأمِّ الثكول/ويا دموعَ اليُتَّمِ/يا دوحة البركات/يا حُرَّةً؛يا عِزِّةً
ويلاحظ في تلك التراكيب الإضافية المنضوية تحت أسلوب النداء وشحناته الانفعالية ؛أنَّ فيض ذات الشاعر الإنسانية؛يجيء هادراً متدفقاً وسيظلُّ سارياً على هذه المثابة في ثنايا القصيدة؛إلى خاتمتها.
كما يلاحظ وفقاً لإيماءات الشاعر أنَّ الكبرياء العربية والإسلامية هنا؛تتبدَّى مجروحة جرحاً فادحاً؛ وأنَّ عزة الفارس العربي وسيادته؛تلوح مهيضة الأجنحة وهي تتعرض باستمرار لانتهاكات ذئابٍ مسعورةٍ تلبست بلباس البشر.
إنَّ قيم الشهامة ومعايير المروءة تتصدع أركانها تحت أقدام المستعمر العنيد.
وتقف بنا الألفاظ الموحية 🙁 التهجيرِوالتغريبِ والكيلِ المطففِ) على طبيعة التعامل الأُممي الجامد مع قضية فلسطين ؛يقرع بها الشاعر أسماعنا؛وهو يشعر في قرارة نفسه أنَّه في مقام نداء الموتى؛ حيث ترتدُّ إليه أصداء الخذلان المتماوجة؛راسمةً دوائر الحزن والأسى الدامي ؛على جبين الخارطة العربية وإرادتها العاجزة؛لكنَّ ذلك وما إليه لم يفتَّ في عضد الشاعر وعزيمته المتجهة صوب تعزيز المعنويات؛والإشادة بالمظاهر البطولية والمشاهد المفصحة عن الاستماتة في الدفاع عن الوطن المستباح.
وكما قيل “إنَّ الجبار المستعمر تأخذه العزَّة بالإثم؛وترنُّحه النشوة بالدم المسفوك”
أمام هذا الطوفان الثائر ؛مضى شاعرنا؛يشير إلى أبرز ملامح الكرْمة غزَّة حيث زيت حقولها الخالص الصافي ؛لم تشبه الشوائب من دنس الأعداء ؛فهو كالنور الساطع مبتداه وآخره بطلٌ صنديد لايهاب العاديات ولاالمخاطر المحيطة؛
وعن الزيت الناصع والحفاوة به يشير الشاعر الفلسطيني الراحل من قصيدة له بقوله:
أنا بلادي بذار الحب حنطتها
وزيت زيتونها مصباحه وطري.
كما أنَّ الأرض المزهوة بسنابل الزيتون اعتنقت مع السماء وراحت توحي إليها ناقلة إليها أنباء القهر الجاثم ..
وفي إسناد الوحي للأرض ملمح بلاغي يشار إليه بالعلاقة المكانية كما في قول الشاعر
يغنّي كما صدحت أيكةٌ
وقد نبّه الصبح أطيارها.
يريد صداح الطيور التي في الأيكة.
ولذلك فإن شاعرنا يقصد أهل الأرض في استنجادهم بربِّ السماء السميع العليم ومدّ أكفّ الضراعة له عزوجلّ؛وألسنتهم تلهج بالقهر التاريخي المتجدد.
هذا القهر الذي وصفه شاعرنا (بالقديم الأممي) ؛بدا في نظره علامةًثابتةً من علامات الاضطهاد تمظهرت في ألوان التشريدوالنفي البغيض عن المواطن وفساد الميزان العالمي ؛مشيراً في هذا الرصد إلى الآية الكريمة (ويلٌ للمطففين).
ويمضي شاعرنا في تجسيد ملامح الظلم الجاثم على صدر الأمَّة الإسلامية؛حيث الجرح النازف؛وثكل الأمهات المتفاقم ؛وصراخهنّ المدوّي؛ودموع اليتامى وقد ملأت الطرقات والساحات..الخ.
ولأنَّ وراء الليلة السوداء فجراً أبيض يؤمن به الشاعر إيماناً قوياً اتجهت بوصلته الفنية إلى مرجعيات تاريخية أُخرى؛تبلورت في استلهام ثوابت دينية أصيلة تعدُّ من خصوصيات هذا المكان الإيماني النابض بنفحات القدسية والمهابة ؛كالإيماء إلى قصة مريم في قوله: (أقداسَ الجلالِ المريمي)
والإيماء إلى حادثة الإسراء والمعراج في قوله:(مدِّي من الإسراءِ
روحَكِ واعرجي )
وفي أربعة الأبيات التالية يخلع شاعرنا على غزَّة ثياب الحريَّة وأنَّ ساعة حصد الطغاة والمجرمين الغُزاة تقرع أجراسها؛وتلتمع البشريات في الأفق أنَّ المكرَ السييء واقعٌ بأهله لامحالة.
تلك الساعة استشرفها الشاعر بقوله: (ستُرَبِّقُ الباغين في طغيانهم)
ويدلُّ الفعل (ربَّق) الذي استعاره الشاعر هنا على المبالغَة في رَبْطِ البهائم؛والشِّياه؛ومعنى ذلك أنَّ الباغين في نظره هم في واقع الأمر بهائم ؛
ومآلها في آخر الأمر إلى السَّلخ في قعر جهنم ؛وذلك حين يساقون إلى ميدان العدالة يوم المحشر العظيم (وقد خاب من حمل ظلما).
____________________
-ظواهر فنية أخرى:
حضور شخصية الشاعر في النص وتميزها بالتصميم والعزم المتين.
رؤية الشاعر تتسم بالتفاؤل المتجاوز
للحدود الضيِّقة والانكسارات؛بعيداً عن التوجس والشعور باليأس.
اعتماد الشاعر على التصوير؛وتجسيد المعاني ملمح بارز كقوله:(وسيوقنُ التاريخُ) وغيره من التعبيرات.
استخدام الألفاظ الموحية ببراعة عالية؛كقوله على سبيل المثال:شخبوا دمي وهي مستعارة من قول العرب:
شَخَبَ اللَّبَنُ وذلك إذا خَرَجَ مِنَ الضَّرْعِ مَسْموعاً صَوْتُهُ.
-تشبثُ الشاعر بالأمل وتعزيزه في أهل غزَّة ؛ملحظ بارز ؛تجلّى واضحاً في اقتران العديد من الأفعال المضارعة بالسين الدالة على المستقبل القريب.
(سأنبتهم ؛ستذلّ؛سيوقن)
-عاطفة الشاعر الجيَّاشة اتسمت بالصدق على طول الخط.
وبعد فقد كانت تلك محاولة يسيرة لمعايشة نص شاعرنا المختلف ؛سلطت فيها الضوء إلى حدّ ما على بعض مضامين النص الإبداعية وعناصره الوضَّاءة؛ على قدر الاستطاعة؛ آملاً أن يكون قد حالفني التوفيق فيما عرضت له من أفكارٍ ورؤى.