عندما سجلنا في مدرسة الشرطة، كان من بين الزملاء الأخ اللواء/ فهد الرميان -رحمه الله-. كُنا مجموعة تقدمت لمدرسة الشرطة بعد أن تطورت من سنتين دراسيتين إلى ثلاث سنوات، ومن مؤهل الشهادة الابتدائية إلى الكفاءة. أيضًا في ذلك العام تعدل مرتب الملازم عند تخرجه من حوالي 400 ريال إلى 863 ريالًا، وكانت هذه الزيادة مُغريةً في ذلك الحين حتى لأبو زيد لو كان موجودًا؛ لترك الجيوش والحروب ودور على واسطة حتى يُقبل في مدرسة الشرطة؛ ليُقال له يا أفندي بدلًا من الفارس المغوار والبطل الذي لا يشق له غبار. تنوعت دورتنا في عناصرها؛ فهناك مجموعات تركت انخراطها في كيانات عسكرية أخرى، ووجدتها فرصةً ذهبية لا تعوض، أذكر من هؤلاء الزميلين صابر القميش وعمر الطجل، واللذين كانا مُغرمين بالعسكرية ويمثلانها خير تمثيل مظهرًا ومخبرًا، ومنهم من كان يعمل في البنوك، وأذكر منهم الزميل رضوان المبارك، وكان المعظم من أصحاب التجارب السابقة، وبالتالي أصبح هناك فوارق في السن والخبرات، وكان فهد الرميان من الذين قضوا جزءًا من حياتهم في خارج المملكة وفي سوريا بالذات، والتي كانت في ذلك الوقت منفتحة على بعض الحضارات؛ فكان يبدو عليه الأكثر منا خبرة ومعرفة والانفتاح الرشيد الجميل، ويمتاز بالإضافة إلى ذلك بطيبة قلبه المتناهية؛ وذلك الكم من المعلومات التي مُعظمها نتاج تمازج الثقافة بين الشام وبين الوطن، وكنت أرتاح لحديثه فقد كان بسيطًا وطيب المعشر؛ فلا أجد عنده ذلك التعالي الذي قد يُمارسه من هو أكبر مننا سنًا، وكنت أرى منه تقديرًا لي وأعتز بذلك فصغر السن مع دقة عودي يجعلني أبحث عمن أعتبره سندًا إذا لزم الأمر؛ ففي العسكرية عادةً هناك من يُمارس دور عمدة الحارة بل والقائد الذي لا يسعد حتى يجعل له رعية يقودها، وكان يُساعده في ذلك أن البعض يحلو لهم دور الرعية والاستكانة تماهيًا مع مقولة مالنا ومال البطولات التي ما تأكل عيش وخاصة في العسكرية. فيظلون يسيرون بجوار الحيط والله يستر والحيط هنا هو واحد ممن سبق أن خاض غمار العسكرية. بحكم أنه يُجيد “استعد وهرول” بصوت جهوري؛ فهو المُكلف بإدارة الفصيل، وبالتالي الهيمنة على القرارات، ولا بأس روح يا طالب جيب لي شاي وإلا اشتري لي سندوتش من المقصف والساعة المباركة إذا كان ذلك من جيبه، وكنت أنا صعب المراس بعض الشيء رغم صغر السن ودقة العود، وكان حميتي فهد الرميان ليس بقوة عضله بل بكلمة الحق وقوة الإقناع وخاصية القبول عند كل الزملاء، وكنا أثناء الدراسة نذهب إلى جدة سويًا؛ فقد كانت الرئة التي نتنفس منها في يومي الخميس والجمعة وكل يذهب إلى شأنه.. مرت الأيام ويبتعث في دورة بوليسية في واشنطن، ويشاء القدر أن ألحق به بعد عدة أشهر، وعندما قابلنا المسؤول عن إدارة برنامجنا الدراسي، وكنا مجموعة مكونة من خمسة ضباط، ونتيجة حملة التخويف وغير المقصودة من الزملاء في واشنطن، وأنها بلد الجريمة ويا ويلكم انتبهوا لأنفسكم أصر الزملاء على أن ندرس في ولاية أخرى، ووافق المسؤول وحولنا إلى بوسطن، وكان فهد يلح عليَّ أن أبقى؛ فقد ملَّ من الوحدة والاتحاد. لكن رحلت مع الزملاء من باب معاهم معاهم، وبعد قضاء أسبوعين لم يعجبني الحال فطلبت إعادتي إلى واشنطن؛ فقيل لي: لكن تدفع ثمن التذكرة فوافقت وكانت 30 دولارًا، وفورًا اتصلت بأبي حمود وقلت أنا راجع. فكاد أن يطير من الفرح واستقبلني في المطار، واتفقنا على أن نستأجر شقة بدلًا من الشحططة بين الأسر الأمريكية، ودار حوار بيننا على أن نأكل الوجبة الرئيسة في الشقة منها توفير، وأيضًا نشم رائحة العافية. لكن من يطبخ فقال فهد وهو من محبي الراحة. أنا لا أجيد الطباخة. فأنت تطبخ قلت: وأنا لا أجيدها لكن أبشر إنما عليك غسل الصحون؛ فوافق طبعًا على مضض، ومرة تكاسل عن غسلها وجاء وقت العشاء. فقال أين العشاء فقلت له إذا ما تغسل الصحون ما في عشاء لا اليوم وإلى أن نرجع للديرة؛ فسكت وتركته وقمت سخنت لي توستة؛ فجاء وقال ماذا تفعل فقلت هذه تكفيني فضحك، وقال أنت جاد قلت نعم فقام وغسل الصحون فطبخت. طبعًا طبخ مشى حالك وبالذات الكبسة وإلى أن رجعت إلى الوطن، وأنا لا أجيد مقدار الماء على الأرز. كان فهد قد رزق بابنه حمود، وكانت الاتصالات بين أمريكا والسعودية صعبة. فيضطر عندما يتصل بأهله أن يرفع صوته. فقلت له مرة انتبه ترى الجيران لهم آذان بيشتكونا رد ماذا أعمل مُكره أخاك لا بطل، ونحن في الحديث وهناك من يطرق الباب، وفوجئنا برجال الدوريات يخبرونا بأن الجيران اشتكوا من علو الصوت، وأن المرة القادمة سيقتادون المُتسبب إلى قسم الشرطة. فصار فهد كلما يريد أن يتصل بأهله يدخل دولاب الملابس ويسكر الباب، وأحيانًا كنت أطرق على الدولاب وأقول له البوليس على الباب؛ فيضع السماعة ويخرج جري. فيراني أضحك؛ فيقول لي عملتها ويرجع يكمل اتصاله. هكذا تعايشنا طوال تلك الفترة، ويشهد الله أنه كان عفيفًا طيبًا نقي القلب، وعُدنا إلى المملكة، وتعارفت عائلتينا، وكانت أيام ولا أجمل، وتوفي فهد وبعد سنوات قليلة لحقت به أم حمود؛ وكأن هذه الإنسانة الوفية ذات الخُلق الرفيع كريمة الأصل، أبت إلا أن تلحق به؛ فلا تحلو الحياة بدون رفيق العمر -رحمهما الله-.
هذه المقالة كتبتها عند حلول ذكرى وفاته ولكن حالت أحداث كثيرة، كنت أتابعها لنشرها في حينه، وأهديها إلى معالي الأستاذ/ ياسر الرميان ابن أخيه عثمان، وإلى ابنه حمود وابنته حسناء، وبقية العائلة الكريمة.
0