عرف العلماء الوقف على أنه الصدقة الجارية، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهو نظام قائم منذ فجر الإسلام، بمجموعة من المؤسسات الخيرية التي كانت رافدًا مهمًا في الحياة، سواءً على مستوى المجتمع أو الدولة.
وقد سبق العالم الإسلامي في ميدان الأوقاف العالم الغربي بثلاثة عشر قرنًا؛ حيث وجد أن أول الأوقاف الغربية ذات النفع العام الوقف الذي أسسه “أندرو كارنيجي” في عام 1911م، في الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الوقف الذي أنشاءه مؤسس صناعة النفط بأمريكا “جون روكفلر” في عام 1913م.
ويختلف الوقف الغربي عن الوقف الإسلامي اختلافًا جذريًا؛ فالوقف الغربي في العادة يقتصر الانتفاع به على أبناء البلد دون غيرهم، بينما الوقف الإسلامي يفتح أبوابه لكل إنسان بغض النظر عن جنسه أو لغته أو بلده وديانته.
ومن أشهر الأوقاف الإسلامية تلك التي ذكرها سيد الرحالة، والذي قضى (28) عامًا مرتحلًا في دول العالم، الرحالة المُسلم (ابن بطوطة) عند زيارته دمشق في القرن الثامن الهجري قال عنها: إن الأوقاف في دمشق لا يمكن حصر أنواعها ومصارفها لكثرتها؛ فمنها أوقاف على العاجزين عن أداء فريضة الحج؛ حيث يُعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أجوازهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل؛ يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزوَّدون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها؛ لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمرُّ عليهما المترجلون، ويمرُّ الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير.
ومن أعجب ما ذكره “ابن بطوطة” من أوقاف ما يُسمى بأوقاف “الأواني” إذ قال: مررت يومًا ببعض أزقة دمشق؛ فرأيت به طفلًا صغيرًا قد سقط من يده صحن من الفخار، فتكسَّر واجتمع عليه الناس فقال له رجل منهم: اجمع ما تكسر منه، واذهب معي لصاحب أوقاف الأواني …فجمعه الصغير وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياه، فدفع له ما يشتري به مثل ذلك الصحن المكسور.
ومن الأوقاف التي أبدع المسلمون فيها ما يُسمى بوقف “المستشفيات”، فذكر (ابن بطوطة) أنه كان يُذكر في نص الوقفية وجوب تقديم الطعام لكل مريض في إناء مستقل خاص به دون أن يستعمله مريض آخر، وذكر أنه تم تخصيص قاعات في المستشفيات للمؤرقين من المرضى؛ فكان يتم عزلهم فيها، فيشنفون آذانهم بسماع الأناشيد، والاستماع إلى القصص التي يرويها لهم شخص يُقال له “القصاص” حتى يغلبهم النوم؛ وقد ظلت هذه العادة لغاية دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م، وقد شاهدها الفرنسيون أنفسهم ودونوها في كتبهم.
وذكر (ابن بطوطة)؛ أنه لم يقف إبداع الحضارة الإسلامية عند الأوقاف الخيرية للناس المحتاجين، وإنما تم إنشاء أوقاف خُصصت لعلاج الحيوانات ورعايتها؛ منها أوقاف لعلاج الحيوانات المريضة، وأخرى للحيوانات المسنة والعاجزة، وكذلك للقطط السائبة تأكل منه وتنام فيه.
0