كنا قد تناولنا مفهوم (الاستثمار الاجتماعي) بكل ما يحمله من آثار تتجسد في العائد على المجتمع منه، ثم القيمة الاقتصادية التي تتحقق للمنظمات التي تضطلع بأدوارها في هذا الاستثمار الأخلاقي، الذي يغلب عليه تلبية احتياجات الكثير من الشرائح المجتمعية، بما يجعله أحد الروافد التنموية الهامة التي تدفع بعجلة النمو والازدهار.
واستكمالاً لحلقات التنمية الاجتماعية التي تتصدى لأدائها العديد من المنظمات الحكومية والأهلية ومنظمات القطاع غير الربحي باعتبارها مصدراً مهماً لحيوية المجتمع وفاعليته، فإننا نتوقف مع مدلول (الابتكار الاجتماعي) أو “التفكير التصميمي” الذي تربط من خلاله تلك المنظمات ما بين الأفكار المستحدثة والأشخاص المبتكرين وباقي المؤسسات والتقنيات، لتصبح بتفاعلها مؤثرة في صنع تحولات اجتماعية نوعية، تساهم في تقديم حلول للقضايا المجتمعية وتلبية العديد من الاحتياجات كالصحة والتعليم ومكافحة الفقر، ورعاية المسنين وترسيخ حقوق الأطفال، والأسر المحتاجة، وحماية النظم البيئية، وغيرها الكثير من القضايا الممتدة على مساحات المنظومة الاجتماعية، والتي تؤكد أن الابتكار هو إحدى أدوات التغيير الفاعلة التي تتطلب أن نرسخ المعرفة التطبيقية له، لنصنع قصص نجاح فريدة في الاقتصاد الملهم، من خلال عقول تتعامل مع المألوف بطرق غير مألوفة، بما يساهم في تحقيق “الإدماج المجتمعي” و”جودة الحياة” و”القدرة على التعامل مع التحديات البيئية” و”كفاءة إدارة الموارد”، وتلكم مخرجات تؤكد أهمية غرس ثقافة (الإلهام) والابتكار في الوعي المجتمعي.
ولعل فكرة (وادي الابتكار الاجتماعي) لربط عالم الأفكار والأشخاص بعالم التقنيات والمؤسسات كجزء من مسؤولياتها الاجتماعية لاستثمار المعرفة والخبرات لتوفير خدمات للمجتمع وتحقيق التنمية المستدامة، في ظل تميز التقنيات ووسائل التواصل الاجتماعي، سيساهم في توظيف مهارات الجيل القادم بشكل تفاعلي مثمر، ليتعدى دورهم الابتكاري مفهوم الريادة الاجتماعية وآليات السوق إلى النظرية الاجتماعية ونظرية التغير الاجتماعي.
لقد عنيت الكثير من المنظمات بتحفيز الابتكار وعقدت من أجله مؤتمرات ومنتديات ولقاءات كثيرة في المملكة منها: مؤسسة محمد بن سلمان “مسك” التي تقدم (ديوان الابتكار)، والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، ومركز أسبار الذي نظم منتدى الابتكار الاجتماعي بنسختيه، الأولى بالمدينة المنورة في فبراير 2022، وفي الرياض بداية العام الجاري2023، وقبله تم تنظيم معسكر الابتكار الاجتماعي في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن المقام في أغسطس 2021 كبرنامج تدريبي متخصص في رفع الوعي المعرفي بالابتكار الاجتماعي وقيمته في تقديم الحلول الاجتماعية المستدامة.
كما لا ننسى الجهود البارزة التي يقدمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء)، وشركة (بياك) الرائدة في انشاء حاضنات ومسرعات الأعمال وتمكين الابتكار، وهي تابعة لشركة (تقنية) المملوكة من صندوق الاستثمارات، ثم جمعية الابتكار والتقنية التي تركز على إطلاق طاقات افراد المجتمع الإبداعية لإيجاد حلول مبتكرة للتحديات.
إضافة الى الجهود الملموسة في منظمات القطاع غير الربحي التي قدمت الكثير من الحلول الابتكارية التي تركت أثرها المستدام في مسارات التنمية الاجتماعية، مؤكدة أن القطاع الثالث هو أرض خصبة للريادة والإبداع، وتحقيق التنمية بالتمكين، منها -على سبيل المثال لا الحصر- جمعية البر بجدة، ومؤسسة الملك خالد الخيرية، وجمعية ماجد الخيرية، مؤسسة الراجحي الخيرية، والسبيعي الخيرية وغيرها.
بل إن جمعية البر بجدة وجّهت جهوداً خاصة لتحفيز المتطوعين المسجلين فيها للمشاركة في مبادرات مجتمعية فعالة، وعملت على استنهاض هممهم وتشجيعهم على تقديم أفكار خلاقة لخدمة المجتمع، كما قدمت حزمة من البرامج للأيتام المقيمين في دور الضيافة التابعة لها، تضمنت احتضان قدراتهم وتنمية مواهبهم وإطلاق العنان لأفكارهم حتى تطوف في مواطِن النماء والازدهار، إيماناً منها بالدور المحوري لهؤلاء الأبناء في دعم المشروع التنموي.
تلكم التجارب الحية في منظمات القطاعين العام والأهلي ومنظمات القطاع غير الربحي تنادي بضرورة توحيد جهود تلك القطاعات لتصب في بوتقة واحدة من خلال التعاون والتنسيق مع (هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار)، منعاً لتشتت الجهود المبذولة من كل قطاع على حدة.
كما نرى ضرورة إنشاء إدارات أو أقسام داخل مختلف المنظمات تسمى (إدارة التطوير والابتكار) حتى يتحول هذا المفهوم الى ثقافة عامة لدى منسوبي تلك المؤسسات.
ويضاف الى ذلك أهمية تدشين أقسام علمية في الجامعات لتدريس مواد ترتبط بالتنمية الشاملة القائمة على مخرجات الابتكار، أو وضع مادة الابتكار والتطوير كمتطلب دراسي جامعي في جميع التخصصات.
ولعلنا نرى أيضاً أن تتصدر منظمات القطاع غير الربحي المشهد الاجتماعي بتخصيص جوائز للمبتكرين الذين يقدمون أفكارا لمشاريع مجتمعية ذات أثر مستدام سواء كانوا من داخل تلك المنظمات أو من أي فئة في المجتمع، ويكون ذلك بالتنسيق مع عدد من الداعمين من قطاع الأعمال.
وقد تكون تلك الجهود دافعاً لقيام مختلف المنظمات بعمل دراسات معيارية دقيقة تخص العائد على الاستثمار الاجتماعي بنوعيه: التقريري (للمشاريع والمبادرات المنفذة)، والتنبؤي (للمشاريع المستقبلية)، لتحديد الفترات الزمنية المتوقعة للحصول على عائد الاستثمار وقياس أثره، والتي قد تمتد لسنوات، ولكنها في كل الأحوال ستكون مجدية في تحقيق الاستدامة لتلك المنظمات.
خلاصة القول: إن توطين ثقافة الابتكار الاجتماعي وفق منظور مفاهيمي شامل يتطلب احتضان الأفكار وتحفيز المبادرات وتوفير التمويل المستدام لها وحاضنات الأعمال، إضافة الى معامل الابتكار ومجمعات التفكير Think Tanks)) وتعزيز الشراكات المجتمعية، ثم البدء بدراسة أثر الابتكار الاجتماعي في التنمية عبر مقياس معياري يتم استثماره في تطوير سياسات عامة تلبي حاجات المجتمع وتترك أثراً ملحوظاً في الاقتصاد والمجتمع والبيئة، في ظل وجود الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية التي تعمل على تحفيز الاستثمار وخلق الوعي بحقوق المبدعين والمبتكرين وتعظيم المكاسب من توليد أصول ملكية فكرية ذات قيمة اقتصادية واجتماعية.
*المستشار الإعلامي لجمعية البر بجدة