كديننا الحنيف دين الرأفة واليسر والتخفيف، ولغته لغة الإعجاز، وإبلاغ الرسالة بأبسط عبارةٍ وأوفى إيجاز؛ من أجل ذلك كان حاملُ رسالته ومبلِّغُها -ﷺ- أبلغ البلغاء، وأفصح الفصحاء، رغم أمِّيته ﷺ، وكانت البلاغة لغة التشريع والخطاب في الألفاظ وفي النصوص، للعموم وليس على وجه الخصوص. وكم هي المرات التي صعد فيها -ﷺ- المنبر، فخطب بكلماتٍ معدودة، وبلَّغ المقصود بعباراتٍ محدودة! أما كتبه ومراسلاته -ﷺ- التي دعا فيها إلى الإسلام، فقد جاءت في صورةٍ لامعه، وصيغةٍ جامعه؛ فلم تزد عن قوله: (أسلِم تسلم)، هكذا كانت البلاغة، وهكذا يجب أن تكون؛ لأن لُبَّها وجوهرها هو (مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، وإن كان المقصود بالحال هنا حال المخاطب، وطبيعته، وحظه من العلم، والإدراك، والفطنة، فلعلِّي أخرج عن هذا المعنى قليلًا إلى معنى آخر، وأحوالٍ أخرى ليست بعيدةً عن الحال الأولى، بل هي أشد حاجةً لبلاغة المتكلم، وإلمامه بأقسام البلاغة وفنونها؛ وأقصد الحال النفسية، والحال البدنية، والحال الصحية للمخاطب؛ فكل ذلك هو في أمس الحاجة لأن يلتفت إليه المتحدث. ولن أحوم حول الحمى كثيرًا؛ فإنني أعني بكلامي خطباء الجُمَع، أو البعض منهم، ممن لم يعرف قاموسه البلاغة، أو أنها أضيفت إليه بصورة مشوهة، ولم يستوعب من أساليبها غير التوكيد والإطناب، فانتصب أمام الملأ مكرِّرًا، مبحرًا في الإسهاب، غير مبالٍ بحال المستمع المسكين الذي يتململ بين يديه من مرضٍ، أو إعياء، أو ضعفٍ وكِبَرٍ، أو مزاجٍ عكَّر صفوه الكدر.
يعتلي صاحبنا المنبر فينسى كل من حوله، ويأخذ في مجال الإطالة والتشعب جولة، لا يَمَلُّ التكرار، ولا يتوقف عن الإعادة والتذكار، يعيد الكلمة ألف مره، فتحسبه لا يحفظ غيرها بالمره، ثم يُنوِّهُ على أن الموضوع لن يتسع لتفصيله المقام، ويعود من جديد منتكسًا مسترسلًا في الكلام، وكأنما هي خطبة وداعه، فليس من قادرٍ حينها على إقناعه.
إننا في أمس الحاجة لإعادة النظر فيمن يعتلي منابر الخطب؛ فالأَوْلى بها الفصحاء، البلغاء، المتقنون لفن الإلقاء؛ العارفون بالأحوال، المتخففون على كل حال، هذا حتى يظل الهدف من تلك الخطب ساميًا لا مجرَّد حديثٍ في مقابِلِهِ انصرافٌ عن الإصغاء.
خارج النص: من أجملِ ما قرأتُ، وأقصرِهِ عبارةً، وأشدِّه بلاغة، قول أحد الأشقاء السودانيين واصفًا حال دولته في بداية أزمتها: إن سألوك عن السودان فقل: هي دولةٌ بجمال يوسف، وحزن أبيه، وفساد إخوته. انتهى