المقالات

فرْطُ السُّبحة..إلى أين؟!

من التعبيرات الشائعة في المجتمعات ؛وخاصة المجتمع المكي قولهم: «فرطتُّ المسبحة أوسأفرطها»؛كناية منهم عن كشف الأسرار الخاصَّة المتعلِّقة بالشخص المراد تأطيره؛وإبراز معايبه الدفينةالداخلة في نطاق الخصوصيات..
وأحبُّ قبل تسليط الضوء على ظاهرة”السبحة المفروطة اجتماعياً”؛أنْ أُعرِّج على دلالة كلمة(سبحة)في التراث العربي؛ومايتعلَّق بها من ملابسات؛وذلك من باب الفائدة والعلم بالشيء.
تطلق كلمة (سُبْحة) في القاموس العربي على (خرْزة)؛وهي لفظة مفردة وجمعها(سُّبُحات).
وهي -كما نعلم جميعاً- خَرَزاتٌ مَنظومة يتخذها المُسَبِّح لضبط عدد مرَّات التَّسبيح طلباً للأجر والمثوبةوالتقرُّب إلى الله.
وقد فصَّل الحديث عنها الشيخ العلَّامة: بكر أبوزيد رحمه الله في كتابه “السبحة.. تاريخها وأحكامها”
وأشار إلى «أن السبحة عرفت في الأديان المختلفة في عصور ما قبل التاريخ، وكانت وسيلة للتعبد لدى البوذيين والبراهمة في الهند وغرب آسيا، وعرفت باسم “جب مالا” ومعناها عقد الذكر، وتساوى عدد حباتها مع ما يعبده ويؤمن به الهندوس من أبراج ونجوم وكواكب في مذاهبهم المختلفة».
كما تطرَّق في كتابه إلى أنّ
عدد حبات السبحة ونوعيتها وألوانها
تختلف من منطقة إلى أُخرى في العالم ؛ففي العراق على سبيل المثال تشتهر الأنواع التالية: الكهرمان “الكهرب”، الفيروز، الحجازي، النارجين، السندلوس الامشست، اليسر، العقيق، حب الرمان، عين التمر، الجاد، عين النمر، العاج، سندلس، العطش، البايزهر، النرجيلة، والأخشاب والبلاستيكية.
بينما يشير الدكتور الفيلسوف عبد الرحمن بدوي في كتابه “التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية”؛نقلاً عن المستشرق الألماني، جولد زيهر،«أنّ السبحة
لم تنتشر في الجزيرة إلا في القرن الثالث الهجري عن طريق مصر.»
ويذكر الأستاذ محمد بن فنخور العبدلي، في كتابه “السبحة في حكم السبحة”؛«أنّ المسبحة لم يرَ لها
ذكراً في نسبتها إلى عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا في نصين؛أحدهما ما نظمه المغربي التهامي:
قَد خَلَّف الرسول تِسْعاً تُعْرَف
سجادةٌ وسبحةٌ ومصحف
وقفتان وسـواكٌ وحصير
مشـط ونعلان وإبريق منـير!
وتابع قائلاً: «لقد ظهر نظم الخرز في الخيوط في أول عصر التابعين؛ وآخر حياة الصحابة؛ منذ عصر إبراهيم النخعي، الذي توفَّى العام 96 هجرية.».
وتذكر بعض المصادر أن السُّبحة كانت «معروفة منذ عام 800م، حيث كانت من وسائل التعبُّد لدى البوذيّين ، إذ كانت تَربطُ الصلوات اللفظيّة بالصلوات الفعليّة، ومن ثمّ انتقلت إلى البراهمة في الهند وغيرها، ومن ثمّ إلى النصارى عند القِسِّيسين، والرُّهبان، والراهبات، ومن الهند انتقلت إلى غرب آسيا »
ويذكر بعضهم قولاً -في حاجة إلى توثيق-أن نوحاً عليه السلام سأل الله تعالى عن أوقات الصلاة في السفينة؟
فأعطاه الله خرزتين: بيضاء كبياض النهار، وسوداء كسواد الليل، فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد تلك، على قدر الساعات الاثنتي عشرة.!
ويدل مصطلح (فرْط السبحة)؛في المجتمعات الحديثة على تخلخل العلاقات الإنسانية؛وتشتت الأصفياء
ومن إليهم ؛فبعد أن كان يؤلفهم عقدٌ واحد منتظم انتظاماًدقيقاً ؛إذا هم قد تناثروا مِزقاً أباديد ؛وتفرّقوا في المنازع والغايات والأهداف الإيجابية المشتركة.
وتتجلَّى مظاهر (فرط المسبحة) بوضوح تام ؛وعلى نحو مباغت ؛فيما يحدث من تراشق بسهام الألفاظ ولاسيما على صعيد الحياة الزوجية.
فما كان يدور بين الأزواج من أسرار ومكاشفات خاصة؛يصبح مما تلوكه الألسنة؛منشوراً على”حبل الغسيل”كما يقال !
ونظرية “البيوت أسرار”؛ التي درجنا عليها ؛تتلاشى قِيمها تماماً إذالصراع يبلغ وقتها درجة الغليان.
ومما لاخلاف عليه أن رحلة الحياة الزوجية الطويلة-إذا جاز التعبير-
منظومة متكاملة أشبه ماتكون بمنظومة المسبحة التي تتراصّ حباتها جنباً إلى جنب؛لاتطغى واحدة على الأخرى؛فإذا تعرَّضت هذه المنظومة للعطب وسوء الاستعمال أتلف عقدها؛لاسيما إذا كان هذا العقدرقيقاً واهياً .!
كما أنَّ المواقف في ظل تلك الحياة المشتركة لاعداد لها ،و الأحاديث الودية الحميمة ذات تنويع مستمر؛يأتي بعضها في سياق الدردشات الودية الدافئة البعيدة عن التحفظات؛وبعضها الآخر يدور في فلك الحياة العامَّة ومتطلباتها المنوطة بالأسرة الواحدة.
ففي الأولى يتبادل طرفا الأسرة الأحاديث المختلفة ؛ فيفضي أحدهما إلى الآخر؛وكذلك العكس بمكنونات قلبه؛ في جو تسوده الطمأنينة؛والشعور بالغبطة ؛وترفُّ على بساطه المخملي فراشات الأحلام والتطلعات المستقبلية؛بلاحساب؛ولاخوف من أدنى عقاب متوقع.
وفي الثانية يتبادلان الآراء العقلانية ويتعاونان معاً في مواجهة مسؤوليات الحياة؛في جوٍ يسوده التفاهم البعيد عن الضغوط والتشنُّجات.
وباعتبارهما شريكين في الحياة؛ومواجهة مفارقاتها المتعددة من خوف وفرح وصحة ومرض؛فلامكان إذن للنفاق أو الخديعة؛أو التصنُّع؛أو التحايل والتظاهر بماهو مخالفٌ الحقيقة.
ثم يحدث أن يختلف الزوجان في قضايا مشتركة؛ويشتد النزاع بينهما؛وتتسع الفجوة ؛إلى أن يصبح قرار الطلاق هو الحلُّ الحاسم.
ولو أنَّ الأمر-والكلام هنا عن بعض الزيجات- وقف عند هذا الحدّ لقلنا ساءت العشرة؛وطابت النفوس؛ومضى كلٌّ إلى غايته؛والرازق هو الله؛ومنه النصيب؛ وماشاء الله كان؛ومالم يشأ لم يكن.
لكنَّ تلك المنظومة من العلاقات الدافئة تنقلب إلى مهاترات ونزاعات ؛وتطفو أسرارها إلى السطح الخارجي على شكل روايات مبالغ فيها ؛وحكايات فجَّة؛وأقاويل واهية ما أنزل الله بها من سلطان.
على أنَّ بعض تلك الحكايات تفيض بألوان المرارةوالأسى.
وفي الحالات جميعها يكون طابع تلك الحكايات العام هو الهجوم الشرس المتبادل من كلا الطرفين ؛وقد تتعدَّى تلك الهجمات إلى أن تتولَّد عنها رغبات جنونيةفي الانتقام ؛ولو أُتيح لهذا أوذاك محو الآخر من خارطة الوجود لأقدم سريعاً دون تردد؛وقديماً قالوا:«وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضح»!
حكايات تستحيل فيها أزمنة العشرة الطويلة على مافيها من مواقف حميدة؛ ووقفات إنسانية إلى أكوام مرصوصة من الرمادالمتطاير في الأزقة والميادين.
كلُّ شيء جميلٍ بينهما زالت نضارته؛وتلاشت جمالياته؛وخبت شموعه؛لتحلَّ الآن الكراهية محل المحبة النموذجية التي شكلت ذات يوم أساس مداميك الحياة الزوجية؛ورباطها المقدّس.!
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه الظاهرة غير الصحية المسمَّاة :(فرط السبحة)؛ليست وليدة اليوم؛بل هي متجذرة في تراثنا العربي؛ وقد خصص ابن طيفور الخراساني لذلك كتاباً أطلق عليه(بلاغات النساء)؛وفيه يحشد عشرات القصص مما دار بين الأزواج من تراشق بالألفاظ؛لايكاد يصدُّقها العقل ؛ولايستوعبها المنطق السليم المعتدل.
ومن تلك الأقاصيص؛مادار بين أبي جفنة الهذلي؛وامرأته أم عقَّار ؛وفقاً لما رواه الأصمعي؛إذ يقول:
« حدثني عبد الرحمن المدائني قال قلت لأبي جفنة الهذلي، وقد طالت صحبته لامرأته؛ وكانت تدعى أم عقار ما تقول في أم عقار؟!
فقال: إن كنت متزوجاً فإياك وكل مجفرة منكرة؛ منتفخة الوريد؛ كلامها وعيد؛ وظهرها حديد؛ سعفاء فوهاء؛ قليلة الارعواء؛ دائمة الدعاء؛ طويلة العرقوب؛ عالية الظنبوب؛ شرها يفيض ؛وخيرها يغيض؛ لا ذات رحم قريبة؛ ولا غريبة نجيبة؛ إمساكها مصيبة؛ وطلاقها حريبة؛ بادية القتير؛ أي “الشيب”؛عالية الهرير” أي صوت الكلب”؛ شثنة الكف؛ غليظة الخف؛ تعين على بعلها الزمن؛ وتدفن الحسن؛ لا تعذر بقِلَّة؛ ولا تجازي عن زلَّة؛ تأكل لمّا ؛وتوسع ذمّاً؛ إذا ذهب همٌّ أحدثت هماً؛ ذات ألوان وأطوار؛ تؤذي الجار؛ وتفشي الأسرار!
قال فقلت لأم عقار أما تسمعين ما يقول أبو جفنة؟!
قالت: فلعن الله أبا جفنة فبئس والله ما علمت زوج المرأة المسلمة؛ قضمة حطمة؛ أحمر المأكمة؛ محروم اللهزمة؛ له جلد هرمة؛ وأذن هدباء؛ ورقبة هلباء؛ وشعرة صهباء؛ لئيم الأخلاق ؛ظاهر النفاق؛ أخو ظنٍّ وصاحب هم وحزن؛ وحقد وإحن؛ رهين الكأس ؛دائم الإفلاس من كل خيرٍ يرتجى عند الناس؛ خيره محبوس؛ وشره ملبوس؛ أشأم من البسوس؛ يسأل إلحافاً، وينفق إسرافاً؛ لا ألوف يفيد؛ ولا متلاف قصود،شرٌ أشنع؛ وبطنٌ أجمع؛ ورأسٌ أصلع؛ مجمع مضفدع؛ في صورة كلب؛ ويد إنسان هو الشيطان؛ بل أم الصبيان!
قال فحكينا قولها لأبي جفنة فقال: فما فمها ببارد؛ ولا بطنها بوالد ؛ولا شعرها بوارد؛ ولا أنا إن ماتت بواجد ؛وذلك إن الشر فيها ليس بواحد.!
فحكينا قوله لها فقالت :هو والله ما علمته ،ضيق الصدر؛ لئيم النجر؛ عظيم الكبر؛ كثير الفخر.!
إنَّ الذي ينبغي ألَّا يغيب عن أذهان الأزواج والأصدقاء الحميمين ؛ وعن مداركهم في خضمِّ المناوشات ؛وقبل (أن تنفرط السبحة) هو أن المثالية في الحياة أو مايسمَّى (اليوتوبيا) أي المجتمع المثالي الخالي من العيوب؛لاوجودلها إلاّ في خيالات الفلاسفة القدامى منظري المدينة الفاضلة،وإنَّ عمليةترصد الأخطاء والعيوب والزلَّات وتعقَّبها ؛بدلاً من التغاضي عنها في مسيرة الحياة الإنسانية ليستْ من الأخلاق الأصيلة في شيء ؛ولاتمتُّ إلى تعاليم الدين الحنيف بأدنى صلة..
فإذا قدَّر الله (وانفرطت السبحة) ؛
لأي علاقة إنسانية ؛فمامن سياجٍ آمن يحمي تلك المواقف سوى الإنابة الصادقة والاستجابة إلى نداء الله تعالى في قوله الحكيم:(وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
ورحم الله الشاعر القائل:
فمن دام بالعهد دُمنا له
ونستودع الله مَن لم يَدمْ!

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله.

محمد سلطان الأمير

شاعر - معلم لغة عربية - مكة المكرمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى