رحلة العبور -2-
قبل ما أبدأ في موضوع المقال أودُّ أن أنوه. أنه عندما أستخدم كلمة “أنا” في بعض المقالات؛ فهي رمز لشخصيةٍ ما. في الغالب فرضها السناريو والحبكة الدرامية. إلا ما كانت هناك أحداث واضحة تخصني، وأعتمد على فطنة القارئ في التمييز، ولا أشك في ذلك قيد أنملة، وهنا وفي المقال السابق كلمة “أنا” هي ذلك الرمز. عود على بدء وصلتني من صديقي أبو علان رسالة موضوعها خارج عن المألوف كما قلت لكم في المقال الماضي؛ فمعظم الرسائل التي عادةً تكون بيننا حتى في المجال الأدبي والاجتماعي معظمها حوارات ساخرة معتمدين على قاعدة ابتكرناها أسخر منها وعليها تنجلي، ولكن رسالته هذه تُعد ضربًا من ضروب التراجيديا، والتي هي من عناصر الدراما كما يقول أرسطو. قرأتها بتمعّن وطلبت منه أن تكون محورًا لمقالي؛ فقال تصرّف ولكن حسك عينك تجيب اسمي “أنا” مو ناقص رسائل مجاملات وسلمات وايش بك وهيا بلا نكد. وايش فيك أثرك تعاني وما ندري، رديت عليه وقلت آفاه البيوت أسرار وسرك في بير. قال عاد لا تمسكها عليَّ؛ وكأني مرتكب جريمة. بس ترى ما أبغي دوخة الدماغ. قلت أبشر ولكن من حقهم يعرفون من الذي رسم هذا الإبداع، إنها ريشة فنان مُفعمة بإحساس مُلهم وشفاف. قال خف عليَّ ترى راح أصدق. سكت وما رديت وقلت أنتم الحكم. رسالة أبو علان ذات شجن وبوح رائعين، أثرت فيني ووجدت فيها مضمونًا لا تخلو منه حياة إنسان. وبعيدًا عن سخريته وسخريتي التي تغلب على سواليفتا، أترككم مع رسالة صديقي فلان. قال يُخاطبني …أخي زيد أبو عبيد… مرت بي في حياتي تجارب ومصاعب وطريق مليء بالألم، فقدت أحبة وأوجعني الفقد. رغم الظاهر مني وعني أني إنسان ساخر أضحك عليَّ ومن المعاناة. أتعبتني ذكريات من فقدتهم كما يتعبني قلقي على من أحبهم وهم حولي. هكذا الحياة لا ترحم. أسخر منها قدر خوفي. وتسخر مني عند استسلامي. وكل هذا يتلاشى عندما تأتي لحظة صفاء؛ فتحدثنا النفس.. إنها لحظة عبور. نعم كل حياتنا لحظة عبور من منا لم يعتصره الألم، ولم تعركه حيثيات الحياة لدرجة يظن أنه الوحيد الذي عَانى والوحيد الذي صبر. كل محطة من محطات الألم تحتاج إلى رحلة عبور نتخطى فيها وعثاء المصاعب، ونعالج بها نتوء الصدمات، وأكيد نحتاج إلى وسيلة نقل للعبور والوسائل كُثر. ولكن لا ننال أحدها إلا بشق الأنفس والقلوب. جلست أفكر قبل فترة ما هي وسيلة العبور التي يمكن تكون الجسر الذي ينقلني من حالة المعاناة هذه إلى التصالح مع نفسي. أُحَمِّل نفسي في الكثير من الأحيان كل عقبة مرت عليَّ من أحب أيا كانت تلك الإشكالية. وأحاور مشاعري معتذرًا لها عن كل أخطاء وقعت في محيط الأسرة أو من أحب، وبشكلٍ ما أحاول أن لا أزج بنفسي في كل حادثة وقعت أو خطب حدث، وأصيغ السيناريو المناسب لأحكم على نفسي بعدم الذنب ولكن هيهات. هذه التوليفة من التفكير استعمرت حياتي، وكانت تراودني لسنين طويلة كطيف عابر سرعان ما يزول، ولكن في الفترة الأخيرة تكاثرت هذه الأفكار؛ فقررت أن أعيش معها ولا أفارقها، وأما وجدت سبيلًا لهزيمتها والتصالح مع نفسي، وإما سأعيش معها بعُمق وتكون هي نمط حياتي. فكرت بعد أن عشت فترة غير قصيرة معها استسلمت لها. أردتها أن تهزمني تعاقبني؛ وكأني استأنست وقع الألم وإفرازاته من تنهدات وسرحان، ولا يخلو الأمر أحيانًا من دموع مهما غَزُرت لا تطفئ أتون تلك المشاعر الحزينة بل وكأنها كأوراق شجر جافة تغذي أوار نارها؛ فتزداد اشتعالًا. تهت أسابيع بل شهورًا في مجاهل تلك الأفكار، وأنا بين حنين إلى أن أجلد الذات أكثر فأبقى معها. أو بين أحيانًا أرى في نفق الألم هذا شعاعًا يُومض لحظة ويهمد أخرى؛ وكأنه يُناديني أن أتبعه لأخرج من ظلامه إلى الجانب الآخر من قدري؛ وحيث إن الإنسان مهما آلمته بعض أحداث الحياة يظل وإن كان تلقائيًا متشبثًا بتلابيب الأمل، قمت فجأة وكأني ولدتُ من جديد أو أنني ارتويت بل وثملت من نخب عذاباتي تلك، ولا أحتمل المزيد. لم أتصل عليك وقتها؛ فقد خشيت أن انتفاضتي على حالتي تلك مُجرد ثورة لحظة سأم وضعف، ومن ثم أعود. ولكن قناعاتي تصاعدت بأن الإنسان هكذا حياته يتأثر ويؤثر.. يألم ويؤلم. وقد تضعه الأقدار ليكون سببًا لعقبة في طريق نجاح غيره، ولا حول ولا قوة له في ذلك. كما هو قد تصادفه أحداث مماثلة. الحياة تمضي لا تتوقف مع أحزاننا ولا تهرول سراعًا مع أفراحنا. أنت تسير وعيناك تراقب قوافل الناس التي تمر أمامك أتتخيلهم كلهم خالين لا يشغل بالهم حدث ما أو خطب عارض، ويكادون أن يطيرون من السعادة ولا يعرفون الحزن ولا أشباهه؟ أم نتخيلهم كما تُوحي إليك مخيلتك عندما تكون الهموم داهمت حياتك.. إنهم لا يعرفون إلا العناء طريقًا ولم يكن يومًا ما الفرح لهم سبيلًا. إنهم بين هذا وذاك فالناس أسرار؛ فلا تنقب ملامح الأحزان ولا آثار الجروح التي قد يُداويها الزمن والصبر وإن بعد حين. ولا تستكثر السعادة التي قد تراها في وجوه بعض الخلق؛ فقد تكون ولدت من رحم الأسى والمعاناة.. بعد أيام من التيقن أني قد هاجرت من سرمد المعاناة إلى ضوء الحقيقة التي تحتمل كل شيء والقناعة بذلك رسمت على وجهي ابتسامة، حرصت أن يكون مصدرها القلب، وخرجت من غرفة المكتب، وناديت يا أم علان، ردت مرحبًا أبا علان قلت سوي لنا براد شاي عليه أشكي من يدك الحلوة. قالت أبشر لعينيك بس لا تشكي.. انتهت رسالة فلان…وأنا أقرأها كلمة.. كلمة تساءلت أين أنا من هذا؟.. أهذا أنا أم هو؟. وكدت أن أذرف دمعة تضامن، ولكن تبلدت مشاعري وتجمدت. وأبت واستعصت مدامعي؛ وكأنها تقول: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر…
0