ضمن مبادرات الشريك الأدبي في منطقة الباحة، التي تشرف عليها هيئة الأدب والنشر والترجمة، وبحضور أمين منطقة الباحة د. علي السواط ووكيل جامعة الباحة د. عبد الرحمن الشرفي، وجمع من الأدباء والشعراء والمثقفين، نظَّم مقهى “تويلفي” أمسية أدبية، ضمن أمسيات شهر يناير لعام 2024، بعنوان: “القرية قصة تروى”، أحياها القاص والكاتب الصحفي جمعان الكرت.
استهل الأمسية مديرها توفيق محمد بن غنام الذي رحب بالحضور وتقديم ضيف الأمسية الذي بدأ بقراءة نصوص انبثقت من حشاشة القرية، سواء في سراة الباحة أو عمان أو روسيا في شمال الأرض أو البرازيل في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، المفهوم واحد لأطر وخصائص القرية، وعدد سكانها قليل ومساكنها محدودة..
أما الاختلاف فهو في العبادات والعادات والتقاليد والثقافة وأسلوب الحياة ونمط المساكن، فهناك مساكن مبنية من الحجارة وأخرى من الطين، وثالثة من القش ورابعة من الخشب بحسب المواد الخام للبيئة.
والقاص والشاعر والفنان والكاتب والروائي في أي مكان على سطح الأرض تتشكل له علاقة وجدانية مع المكان لوجود المثيرات الحسية؛ ليندمج ويتعايش معها ويتعامل تعاملًا إبداعيًا ليحيلها إلى عمل أدبي بتشكيل التجارب إلى خلاصة مركزة شديدة التكثيف عميقة الدلالة، يتعامل مع لحظة أو فكرة أو انطباع أو إحساس أو موقف أو ومضة ويلتقطها ببراعة؛ ليشكلها فنيًا يستقطر الدلالة ليعمقها يحاول بناء قيم تزيد من وعي الإنسان.
القاص يتعامل مع قريته بكل مكوناتها وأبعادها التكوينية والجمالية ومفرداتها وآفاقها التراثية والماضوية، فالعلاقة بين المبدع والقرية علاقة تشاركية من خلال محاولاته لتشكيل المثيرات الحسية إلى عمل فني بتخزين ما يراه ويسمعه ويشعر به في الذاكرة كملامح الأشخاص وطريقة كلامهم وتعبيرات وجوههم وتفاعلاتهم، ويحاول القاص تنظيم ما تلقّاه وانتبه إليه وأدركه بطريقة جديدة، (التفكير الأصيل ينزع إلى القيام بعمليات إعادة التنظيم أكثر من كونه انعكاسًا للخبرات السابقة).
ثم أضاف: القصة القصيرة عمل فني نثري يتميز البساطة والتكثيف، ويركز القاص على لحظة من لحظات الإنسان، يُعمقها، يكشف عنها في شكل فني يتميز بالتلميح والمواربة، لا الإعلان أو التصريح.
فمثلًا: “جان ماري” يقول: (الفن يستمد قيمته مما لا يقوله، مما يوحي له).
وحين يكون القاص ممتلئًا بجمال بيئته التي عاش بها طفلًا وترعرع شابًا، حتمًا سيترسخ ذلك البهاء في ذاكرته كوشم أبيض أينما ارتحل وغاب عن دياره، وتجلى ذلك في السرد القصصي لدى القاصين الراحلين.
وذكر أمثلة لذلك: “عبد العزيز مشري” في “أسفار القروي”، و”محمد علوان” في مجموعته “دامسة” وغيرهما، إذ يمكن تذوق طعم خبزة الحنطة والشعير وشم عبق الكادي والريحان وملامسة أرواح ساكنيها الطيبين، والتجول مع القاص في مسارب وطرقات القرية، وتهجي أسرار أبوابها ونوافذها وأحجارها، والتعاطف مع المهمشين.
محمد علوان وعبد العزيز مشري وعبدالله المالكي يحملون كاميرات إبداعية نشاهد من خلال التقاطاتهم الأنيقة والعميقة القرى الجنوبية بناسها ومبانيها الحجرية وأشجارها الخضراء وعصافيرها الملونة ومياهها الشفيفة وجرنها المليئة بمحصول الحنطة، ونتألم لأحزان المكلومين، ونحزن للمرضى، ونبتهج بالسعادة وهي تحلق كالفراشات في حقول القرية.
الروائي والقاص الراحل عبد العزيز مشري -يرحمه الله- يقول: (شبعنا من المدينة والأسفلت والسيارة، ومللنا من أصوات بوق القطار ومحطات السفر في الذوات النرجسية).
ويضيف متسائلًا: (كيف نسينا جبالنا وطلحنا وفلاحنا وبدوينا، وجرينا خلف زخارف المدينة الأسمنتية؟).
للقرويين أغنيات انتزعوها من شغاف قلوبهم، وغنوا للوادي والجبل والمطر والسحاب والكادي والثمر والطيور، غنوا في الأعراس، وما أن يروق لهم المكان والزمان حتى تنفلت حناجرهم بشدو جميل وقصائد منسوجة بخيوط الإبداع.
ويأتي طرق الجبل كواحد من الألحان الشعبية المميزة؛ حيث يموسق القروي حباله الصوتية بتغيير درجات صوته ارتفاعًا وانخفاضًا ترخيمًا وتطريبًا، وكأنه ألم بما يسمى حاليًا “بالنوتة الموسيقية”.
يغني القرويون حين يبذرون محاصيلهم الزراعية، وحين يحصدون، وحين يسرحون لحقولهم الضاجة بالاخضرار، وحين يعودون إلى منازلهم المُفعمة بالدفء.والنساء يغنين وقت الزيجات وصفًا جميلًا للعروس ومدحًا لائقًا لعائلتها، ويغني الرجال في المناسبات بلغة حماسية تتوافق مع صلابتهم، وتنسجم مع عاداتهم وأسلوب حياتهم.
تناغم حميمي مع الطبيعة، إذ يُشكل له منتج الحقل قصة فارهة أو حكاية مدهشة وفرحًا منتظرًا بعد جهد مُضن ومتابعة دائمة.
فالأودية والشعاب والطرقات ومداميك ونوافذ وأبواب المنازل تحتفظ بأصداء أصوات أسلافهم، وبقيت موشومة في الذاكرة، لتُنسج روايا، جمع “روية”، أي حكاية شعبية بأسلوب مبسط وعفوية أنيقة، استلت من سلافة الماضي، ولا تخلو من عنصر المفاجأة والتخويف والنصح، والتوجيه والتحذير..
حكاية الجثام والسعلي وهول الليل وملكة الجان، وتتشكل الأسطورة بصور تكاد تكون متشابهة بين قرى السراة ، في القرية يغنون للجمال أيا كان قمرًا زاهيًا، وأودية خضراء، وديمة توشك على سقيا الأرض، عذق كاذي يعبق برائحة زكية، امرأة حسناء اكتسى جبينها من ضوء القمر، النقاء القروي جعلهم يفرحون حين يكون للفرح معنى، ويحزنون إذا أصاب أحدهم مكروه.
القرية كانت أسرة واحدة ومشورة واحدة، لم يبقَ إلا ما تحتفظ به الذاكرة من بهاء آفل، لقد اهتز عمود القرية الذي كانت تتكئ عليه بعد أن كان أفرادها حزمة واحدة، أضحوا حاليًا فرادى، لكل منهم ثقافته التي تشربها من منافذ المنصات الإلكترونية المتنوعة الطاغية، وأسلوب حياة ومنزل إسمنتي حديث مسيج بحائط منيع، القرية تلبست بثقافات متنوعة فرضتها الظروف الحياتية مع مستجدات التنامي التقني المذهل..
القرية أيها الأحبة ليست منازل تُبنى فقط، بل علاقات إنسانية وجدانية، في ظل تنظيمات اجتماعية من عادات وتقاليد وقيم ودين..
القرية وحدة اجتماعية قبل أن تكون وحدة سكنية يلتقي سكانها في الأفراح والأتراح ودور العبادة والأسواق، والبيت أحد المكونات الأساسية للثقافة المادية التي تلتقي عندها مجموعة العلاقات المتشابكة مع بقية العناصر الأخرى.
لذا حرص سكان القرى على اختيار المواقع المناسبة لتأسيس قراهم تبعًا للحياة المعيشية سواء زراعة أم رعي أم تجارة، مع ضرورة مراعاة البُعد عن مسار وممرات الوادي، بل تركوا ضفاف الوادي مساحة جمالية تُزينها المصاطب الزراعية والتي تأتي على شكل مدرجات بحسب تدرج الخطوط الكنتورية لسفوح الجبال، وتحكي تلك المصاطب حضارة زراعية امتدت لآلاف السنين تفاعل فيها الإنسان مع البيئة، مستفيدًا من خيراتها من حبوب الحنطة والذرة والبوسن والفواكه، خصوصًا العنب والحماط واللوز، فضلًا عن قيمة المدرجات في الحفاظ على التربة من الانجراف بفعل الأمطار.
نتغزل بأسلوب نثري قليلًا في القرية…
القرية زهرة جبلية بيضاء
ترقص الأشجار والأغصان والطيور والورود،
ثمرة اللوز بلونها الأرجواني تبث هالات الفرح للحقول المجاورة،
نبات “الطباق” اللزج يعقد علاقة مع الشمس خصوصًا في الصباحات الباكرة..
في القرية تتحول المرأة إلى ضوع ورد، والرجل يغدو سنبلة قمح..
القرية تربي أطفالها على الطهر.. والنقاء..
للقرية غناء جميل. يمتزج مع زقزقة العصافير.. وتهويمات الفراشات الملونة ..
«القرية» هي من علمت الشاعر الوزن والقافية وبحور الشعر والقاص كيف ينسج قصته.
هي أيضًا من علمت النساء كيف يضعن أصابعهن في العجين.. ليصبح خبزًا طريًا وشهيًا.
ويزين كفوفهن بالحناء لتغدو قصائد عشق وقلائد حب.
هذبت الرجال وعلمتهم أن النساء أجمل وأطهر مخلوقات الأرض ..
القرية هي المدرسة التي علمت أبناءها معنى الجمال والتسامح..
وحديثي أيها الأحبة عن القرية ليس كمكون ثقافي واجتماعي ومكاني فقط بل كمكون حيوي مليء بالإبداع والحميمية والدفء والجمال، القرية قيمة ثقافية ونبع معرفي بل هي المحرض الأجمل للإلهام المحفزة للإبداع.
أحد الباحثين يُقسم الفضاءات الجغرافية إلى نوعين: الأول بحسب وصفه مركزي وتمثله المدينة، والآخر هامشي وتمثله القرية، ويشير بأن النص الهامشي يتحول إلى مركزي إذا بنى النص الأدبي على أن القرية أحد العناصر البانية، وبها الدلالات والأبعاد وفق تكتيك ومعمار إبداعي وتشكيل جمالي.
وهنا من كتب عن أدب القرية: فالدكتور يوسف العارف له كتاب تحت عنوان “النص القروي”.
ومقالة للقاص الأستاذ ناصر العمري تحت عنوان “أدب القرية” في الملحق الثقافي لصحيفة الجزيرة.، ومقالات الدكتور علي الرباعي كل يوم جمعة في صحيفة عكاظ.
والنص سواء كان شعريًا أم روائيًا أم قصصيًا، القرية بكامل روحها وناسها وملامحها وسحرها وأصواتها وروائحها وذكرياتها، وهنا الدور الذي يقوم به المبدع بتحويل المألوف إلى خيال والمنسي إلى حاضر.
وتوجد نماذج مضيئة يمكن الاتكاء عليها كشواهد إبداعية مرتبطة بأنفاس القرية؛ لأنها في نظري كائن حي..
فمثلًا رواية “حزام” لأحمد أبو دهمان، ومجموعة قصصية “أرض بلا مطر” لإبراهيم الناصر، و”رقص” للدكتور معجب الزهراني، “أسفار السروي”، “أحوال الديار”، “الوسمية”، “ريح الكادي”، “صالحة”، “الحصون” للروائي الراحل عبدالعزيز مشري.. “أسرار” لموسى الزهراني. “ثديها الذي”، “الثوب الحنبصي”، “رجل تدركه الأبصار” لمحمد ربيع، ” دامسة”،” طائر العشا”، “ريحانه” لأحمد الدويحي.
“حكايات من الباحة” لمحمد أحمد الأفندي، “السعلي” لعلي حسين الزهراني، “تهْلَل”، “حكايات الجبل” لمحمد علوان، “ألحان سروية” لعبدالله المالكي، “الذئب ومخلوقات أخرى” لعلي الشدوي.
“صراع الليل والنهار” لمحمد الشدوي، “بقايا حصون” لمحمد زياد، “مصابيح القرى” لخالد مرضي، “ضجر اليابس” لعبد الحفيظ الشمري، “مريود” الطيب صالح،
و”سطور سروية” لمحدثكم ….
الأستاذ أحمد صالح السياري في كتابه ذاكرة الأرض في باب خصصه عن القرية يقول: (ولأن القرية في السراة أقرب إلى السماء والسحاب لذلك الناس بفطرتهم شاعريون متدفقو الإحساس دومًا يرددون الشعر والغناء..، يواصل السياري بقوله: النساء والرجال والشباب والأطفال جميعهم ينشدون للحياة للفن للإبداع، يمارسون ذلك ليس ترفًا إنما استجابة لخصوصية ذاتية في النفس)..
ويضيف في مقطع آخر:
(الشمس والقمر حين يطلان على قريتي يخيل إلّى أنهما يغازلان فيها صخورها الناعمة وغدرانها الصافية وخمائلها الجاذبة التي أحالها الإنسان إلى لوحة فنية تأخذ الألباب).
ومن أراد أن يطلع على الإصدار المميز سيجد ما يحقق له المتعة الأدبية والبصرية بوجود الكثير من الصور الناطقة.
وهنا أقول، والحديث لي:
حين كنا نعيش تفاصيل الحياة المعيشية بها لم تشدنا القرية بمكونها المعماري مثلما يشد أهداب عيوننا المخزون الذي احتفظنا به في الذاكرة، إذ كنا نرى وقتها نفعية القرية في طريقة بناء مداميكها الحجرية وأبوابها البديعة ومساربها نراها من رؤية كونها وظيفة تقدم لسكان القرية، وحاجة تتطلبها الحياة المعيشية..
والآن حين ندلف مسارب القرية ونتجول بين بيوتها الحجرية نراها بطريقة مختلفة تماما، إذ تحرك مشاعرنا، نندهش لبراعة النقوش التي أبدع النجار في رسمها بآلته الحديدية على صفحات نوافذها وأبوابها الخشبية، نتعجب أيضًا من عرض مداميكها، نأنس بالتجوال في طرقاتها، نقف على أطلال مبانيها المتهدمة نعيش بذاكرة الماضي القرية بقيت محفورة في الذاكرة رغم مضي السنين.
نستطيع القول بأن القرية مثال جيد يبعث على الحالة الإبداعية في الكتابة عنها، والتعالق مع مكوناتها والتعبير عن نبضها.
وأظن أن الحنين للقرية ليس في القرية الجنوبية بل أن “الرحابنة وفيروز” عبروا عن ذلك الولع وعن الحب وعن الحنين للقرية، أيضًا جبران خليل جبران تغنى بريف لبنان في قصته (الأجنة المتكسرة)، ولميخائيل نعيمة حديث مشوق عن عادات وتقاليد القرى اللبنانية، وليس فقط بعض الروائيين وكتاب القصة بل حتى الشعراء تغنوا بجمال الطبيعة ودفء المكان..
وهنا نرى بأن القرية ببساطتها تلتمع في النصوص الأدبية أيًا كانت.
للدكتور أنيس فريحة أستاذ التاريخ القديم في جامعة بيروت الأمريكية رأي، إذ يرى أن القرية حضارة في طريق الزوال.
الروائي العُماني الذي حاز على جائزة مرموقة زهران القاسمي في روايته الشهيرة (تغريبة القافر) تحدث عن البيئة العُمانية وتفاصيلها بصورة إبداعية تُوثق حياة الإنسان العُماني والحياة في القرية العُمانية.
القاص المصري سعيد الكفراوي، والذي ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات الحية رصد البؤر الصغيرة المتوهجة في حياة القرية المصرية، والمفاصل الحيوية التي في محورها والأحداث.
يتلاعب القاص بالتقنيات الزمنية والعودة إلى الماضي، وفي ذات الوقت يستشرف المستقبل.
“قصص من القرية” للدكتور ربيعة أبي فاضل، “الخبز الحافي” لمحمد شكري.
محمد حسين هيكل في رواية “زينب”، طه حسين رواية “دعاء الكروان”، محمد عبدالحليم عبدالله “شجرة اللبلاب”، توفيق الحكيم في “يوميات نائب في الريف”، عبدالرحمن الشرقاوي “الأرض والفلاح”، رواية “القرية” للكاتب الروسي إيفان بوينين، “جريمة في قرية” أغاثا كريسيتي، “القرية اللطيفة” جول فيرن.
بعد ذلك قرأ القاص الكرت نصوصًا قصصية من تأليفه.
ثم أتيح وقت المداخلات والتعقيبات؛ حيث شارك فيها كل من:
د. علي السواط، د. معجب الزهراني.، د. محمد الحامد.أ. موسى الزهراني. د. محمد الشدوي. د. ناصر الغامدي.أ. سعد الكاموخ.
أ. عبدالرحمن سابي.
ثم ختم مدير الأمسية “الغنام” بشكر الحضور وإعلان التكريم لضيف الأمسية من قبل المقهى، والذي قدمه لضيف الأمسية د. علي السواط أمين منطقة الباحة ود. عبد الرحمن الشرفي وكيل جامعة الباحة.