الأدب عنصر روحي .. وفلسفة عشقٍ .. لا يتقنها ولا يهواها سوى قلة من أفراد المجتمع .. والأدب غالبا حرفة بعيدة كل البعد عن المادة وهمومها .. موضوعنا اليوم يذكرني بالصالونات الأدبية العربية بما لها من تاريخ وبصمة مُشرقة .. الزمان يعود بنا إلى صالون الأميرة الأندلسية ولّادة بنت المستكفي ( 1001 – 1091 م ) في قرطبة عندما كانت تستقطب بمجلسها الشعراء والأدباء ، وحتى النساء كان لهن نصيب حيث يفدن إلى صالونها لتعلم القراءة والكتابة والموسيقى . ولولّادة مع الشعر والغرام وابن زيدون ملحمة تاريخية .. من أشهر ما قالت :
لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا
لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِ
وَتركت غصنًا مثمرًا بجماله
وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ
ولقد علمت بأنّني بدر السّما
لَكن دهيت لِشقوتي بالمشتري
وانتهت ( الحكاية ) بأسطورة العتاب النونية لابن زيدون :
أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا،
وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
في هذا السياق وفي العصر الحديث اشتهر صالون ( ميّ زيادة ) بمرتاديه من عِلية القوم والأدباء والمثقفين أمثال الرافعي والعقاد وطه حسين ولطفي السيد والمازني وشوقي .. وصالون ( ميّ زيادة ) هو الآخر لم يسلم من مآسي الغرام ، ولعل قصة جبران خليل جبران مثالٌ مؤلم يضاف إلى مآسي من سبقه من شعراء الهوى ، سيُخلّد كأثرٍ وملحمة أدبية لا يمحوها الزمن .
أما ( العمّ ) الفيشاوي ومقهاه فقد كان كأي مقهى مصري يقدم الشاي والقهوة وفق مسألة البحث عن الأرزاق .. لكنه تحول بقدرة قادر إلى ملتقىً ثقافي شهير من غير ضيافة ولا تكلفة منذ تأسيسه عام 1797م … إلى أن تلاشى وهجه الثقافي أخيرًا ، وعاد لسابق عهده عند التأسيس ( شاي .. وأهوه. ) يتحسر على ماضيه وعلى خيال ذكرياته ومرتاديه من كبار الأدباء .
وعن الأدب والصالونات الأدبية في بلادنا الغالية ؛ نجدها لا تخلو من عُشاق الثقافة ومن عمالقة الأدب .. ذلك أن التنمية الشاملة والسائدة منذ التأسيس المبارك لدولتنا الفتية امتدت إلى مجالات عدة ، لا حصر لها .. منها رعاية الأدب بشكل رسمي .. ومنها تشجيع المبادرات الفردية للأدباء السعوديين ورجال الأعمال ..
ولأن الموضوع هنا يطول ولا يتسع المقام لتتبع مساراته في أرجاء المملكة الحبيبة ؛ لذا سأشير إلى ملاحظاتي وتجربتي مع منتدى الشيخ محمد صالح باشراحيل الثقافي – ابن مكة البار – الذي أسس كيانا أدبيا لأهل مكة المكرمة ولمن جاورها ولكل محبي الثقافة والأدب .. كيان له أسسه ومجلس إدارته ومستشاريه الخبراء في هذا الشأن . ذلك المسار الحضاري لم يتوقف بالتحاق مؤسس الملتقى بالرفيق الأعلى رحمه الله تعالى ؛ بل امتدت أيادي أبنائه البررة وأسرته الكريمة لمواصلة المشوار إلى أبعد مدىً . لم يقتصر على الأدب فقط . بل مناشط متعددة الخيرية منها والإنسانية ، حتى أصبحت تلك الثلوثية الشهيرة موئلاً لكافة أطياف المجتمع المكي والسعودي والعربي ..المحاضرون كانوا نخبة من المختصين في كافة فروع المعرفة الإنسانية يقدمون عصارة عِلمهم وفكرهم وخبرتهم لجمهور لا يحصى عددهم ، إذا أخذنا في الاعتبار عدد المحاضرات لفترة زمنية امتدت لأكثر من ثلاثين عاما .. الثلوثية تتسم بنكهة رائعة تضاف إلى جماليات مكة المكرمة التي لا ينافسها أي بقعة على وجه الأرض في جمالها وقدسيتها .. لذا كانت ( ثلوثية باشراحيل ) تتسق مع ذلك الجمال المميز لمكة المكرمة ، وحق لمكة المكرمة أن تحظى وتكتسب من يضحي لها ومن أجلها .
الأمسيات لم تكن فكرة عابرة ولا تجربة مؤقتة . فلو كانت كذلك لما استمرت عقود عِدّة من الزمن ، بوتيرة متصلة استمدت فكرتها من مبدأ رصين .. وفكر خلاق .. وعمل لا يخلو من ابتغاء المثوبة والأجر من الخالق عز وجل ، وكل ( ثلوثية ) أجمل من سابقتها .. أما مسألة رحابة صدر مؤسس الملتقى وأبنائه وأسرته الأكارم من بعده ؛ فالموضوع طويل … طويل .. مهما قيل عنه .. فلن يستطيع كاتب أن يقترب من الوصف الحقيقي لأريحية وبشاشة وإنسانية أولئك القوم .. ولعلني هنا أردد ما أشرت إليه في محاضرة سابقة بالقول : ( إن هناك من يكنز القناطير المقنطرة من الذهب والفضة – وهذا شأن يخصهم – وهنا نَجِدُ من يبسط قلبه قبل يده .. فينفق بسخاء على الأدب والفكر والثقافه ) .
لكن ماذا حصل ياسادة ؟
شاءت الأقدار الإلهية أن يُبتلى العالم بسيئة الذكر ( كرونا ) قبل ثلاثة أعوام ولما أمسى أيّ تجمع له عواقب صحية ؛ لذا فقد كانت تلك الأمسيات التاريخية إحدى ضحايا ( كورونا ) .. والمجتمع الثقافي انتظر .. ولم يتجرأ أحد بالسؤال عن أمر يخص أصحاب الشأن .. فالداعي له مقامه المحترم وشأنه الخاص .. اتضح لنا بأنه كانت هناك وعكة صحية شديدة وطويلة لرئيس المنتدى الدكتور الشاعر عبدالله بن محمد باشراحيل .. حضرنا قبل عام وسلمنا وباركنا بزوال البأس ولله الحمد من قبل ومن بعد ،
ما نزال ندعو الخالق عز وجل بأن يحفظ هذه الدولة المباركة وقادتها على ما تقوم من رعاية للأدب ومحبيه ، ودعم مستمر في كل شأن من شئون دولتنا الغالية ، والدعاء موصول لآل باشراحيل بأن يجزيهم الله خير الجزاء على ما قدموه من عطاء ، وأن يبارك المولى لهم في صحتهم ومنازلهم وأعمالهم وفي ذرياتهم إلى يوم الدين .. أقول قولى هذا ويقوله غيري .. ويقوله كل مخلص عرف معادن أولئك الرجال .