ثقافة الإنتاج (٢)
ليس من شك في اتفاق جميع النظريات والموازين العقلية والشرعية والمنطقية على أن الطرح النظري مهما كان جمال سياقه مبهرًا، وإبداع طرحه وبيانه جذابًا، فإنه لا يغني فتيلًا ولا ينصر قبيلًا، ولا يبني نهضة، ولا يحيي أمة، ما لم يكن له أثر عملي مثمر في الخارج، ومن أشهر عبارات الهجاء: مقولة أحد سليطي اللسان البلغاء يهجو قبيلة بقوله: (جوع وأحاديث)، فالإنتاج هو الصفحة البيضاء التي يُسطر عليها، وبها ثقافة مخرجات إنتاج الأمم والدول والشعوب والأفراد، ولما كان السعوديون مقبلين وسائرين نحو نقلة نوعية حضارية فيما يطلق عليه برؤية 2030 فمن المناسب المشاركة بالرأي في دعم الرؤية وتأييدها، والعاقل الحكيم يدرك أنه ليس ثمة إنتاج ناجح وحقيقي ما لم يكن له فلسفة ثقافية ذات بُعد منهجي يجمع بين عنصري (الأصالة والمعاصرة).
ومرادنا بالإنتاج الحقيقي المثمر ما هو أكبر أن يُحصر في اتجاه بعينه، بقدر ما هو عطاء وإنتاج معرفي مادي ومعنوي وأخلاقي وأدبي مستمر ومتطور، وتلك هي الخصيصة الفاردة التي تخصصت بها الحضارة الإسلامية بين سائر الحضارات عبر التاريخ، بكونها ليست حضارة مادية محضة، كما هو حال الحضارتين الرأسمالية والاشتراكية في عصرنا اللتين قامتا على قدمٍ واحدة، وتنظرا بعينٍ واحدة، وتسمعا بأُذُنٍ واحدة، واللتين جلبتا للإسان المعاصر جانبًا محدودًا من السعادة والرفاهية لطبقة الأغنياء، وشقي بها أكثر سكان البسيطة، فضلًا عما ما ولدتا من الطبقية الممقوتة والتفاوت الهائل في الدخل والثروة بين الشمال والجنوب، وإرهاق الدول النامية والفقيرة بالديون ونشرتا على حواشيهما الفساد والابتزاز والاستعمار الاقتصادي المستحكم، والتي يمكن تلخيص مخرجاتهما في قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم: 7)، وهذا ما دفعني إلى الأمل العريض، بأن تكون الرؤية الإنتاجية السعودية الموعودة، إيذانًا بمخرجات ثقافية حضارية جديدة ذات منحى شمولي وأخلاقي يرفع إليها العرب والمسلمون أبصارهم فخرًا واقتداءً، وتقلب في ذات الوقت ظهر المجن لسوءات وهنات وقبائح وسيئات وموبقات الحضارة الغربية المعاصرة بشقيها (الرأسمالي والاشتراكي)، ولن يتحقق ذلك بمجرد الأماني العريضة أو باللغة الخطابية الإنشائية، ولكن بتقديم المخططين الإستراتيجيين السعوديين، الرؤية السعودية بمنهجية حضارية شاملة، نظرًا لما تملكه المملكة من قيادة مخلصة صادقة وشجاعة، وعقول عبقرية مبدعة، وقدرات وثروات مالية هائلة، ومن هذا المنطلق فأمامنا مسؤوليات جسام وكبار، وعلينا أن نندب أنفسنا للقيام بهذه المهام بكفاءة واقتدار، ومن أهمها:
١- إعادة النظر في مناهج التعليم وتصميم المدرسة والمعهد والجامعة؛ بحيث تنحو نحو التخصص المبكر، والجامع بين النظرية والتطبيق والتربية والتعليم، وحسبنا
أن نستفيد من أخطائنا السابقة؛ حيث لا يخلص الطالب إلى التخصص الدقيق، إلا بعد أن يلوح الشيب في عارضيه، مما يلزم تصميمًا جديدًا للمدرسة السعودية التخصصية الجامعة بين عنصري التخصص العلمي والعملي التطبيقي المنهجي والإنتاجي المبكر.
٢- إيلاء البحث العلمي الميداني عناية كبرى في التعليم، وذلك بتأسيس مراكزه المتخصصة ودعم مشاريعه العلمية، واستقطاب العقول المبدعة، ولا سيما من الأساتذة والأساتذة المشاركين، وسائر العلماء المتقاعدين في كل العلوم والفنون الذين لا زالوا قادرين على العطاء، وتمور أجسادهم وعقولهم بنبض الحياة وشِرتها، والتفريط فيهم بقذفهم خارج أسوار الجامعة، يُعد هدرًا غير مبرر لعقول بُنيت على مدى عقود متطاولة، واختزلت خبرات وعلومًا هامة.
وليس المقصود من ذلك تسويد الصفحات وتكديس المجلدات والمؤلفات ووضعها على الرفوف، بقدر ما هو تقديم آراء وأفكار إبداعية قابلة للتنفيذ، وأجوبة علمية ذات صبغة عملية للإجابة على الأسئلة الحائرة، أو حل أزمة عارضة، أو فك معضلة نازلة، أو اختراع جديد.. إلخ.
٣-التركيز على التجديد والخروج من النمطية التقليدية، والانتقال إلى الضفة الأخرى المتميزة بالبناء والعطاء المتجدد .
٤-التوازن والاعتدال في برامج ثقافية الإنتاج، وبخطى تدريجية واضحة ومتبصرة قابلة للرقابة والنقد والمراجعة وفي الحديث (فإن المُنبَّتَ لا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع)
٥-الاهتمام بتوطين الإنتاجية ابتداءً بالقرية والمحافظة السعودية أولًا، وتعميم ثقافتها على الجميع مقرونة بتهيئة البنية التحتية الصناعية لشباب وشابات القرى والمحافظات بتطوير قراهم ومحافظتهم، وإحيائها بالإنتاجية من جنس بيئتهم سواء كانت زراعية أو تجارية أو صناعية أو حرف يدوية، من خلال تأسيس الجمعيات التعاونية التي تُعنى برسم الخطط وتقديم المشاورة والقروض الميسرة، ودراسة الجدوى الاقتصادية، وكيفية التسويق، من أجل إيقاف الهجرة إلى المدن وتكدس السكان فيها بصور هائلة، مما ينعكس سلبًا على نهضة المحافظات والقرى التابعة لها، وربما يسوق إلى إفراغها من سكانها، وتوجههم للتجمع في المدن بحثًا عن لقمة العيش أو إلحاق أبنائهم وبناتهم بالتعليم الجامعي، وما يتبع ذلك من البحث عن التوظيف؛ بحيث لا يعرفون قراهم إلا في المناسبات الاجتماعية والأعياد.
٦- من المعروف تنوع البيئة والظروف المناخية في مناطق المملكة المختلفة، مما يفتح الآفاق واسعة، لرسم خريطة نهضوية تستثمر هذا التنوع، وتساعد على توطين وتطوير جميع المناطق بصبغة متوازنة ومتكاملة وشاملة.
ومن أهم عناصر نجاح الثقافة الإنتاجية التعرف عن قُرب على المعيقات سواء كانت فكرًا أو سلوكًا أو تخطيطًا أو تمويلًا، وذلك من خلال البحث العلمي الميداني المباشر وتفقد أسبابها ومعالجتها، وليس من شك أن الاطلاع على نظريات الثقافة الإنتاجية في الدول المتقدمة شرقًا وغربًا أمر بالغ الأهمية لتوظيفها ببُعدها التراكمي مع ملاحظة الفوارق البنيوية، وثمة علاقات وثيقة بين نظريات علم الإدارة والتخطيط والإنتاج مما لاغنى عنه لتوظيفها في مخزون البُعد الثقافي الإنتاجي وأخذه بالحسبان.
وأحسب أن من أهم عناصر الثقافة الإنتاجية الواعدة والناجحة، التحرر من جميع قيود الاحتكار الرأسمالي والخروج من آثاره وقيوده، ولنا في الصين، المثال الحي على إمكانية الخلوص والانعتاق من تلك الآثار، متى نبع ذلك من الإبداع والتجديد الذي يحمل البصمة الوطنية الخالصة، والتي تمر عبر فلترة المنتج الرأسمالي الغربي وفك الاشتراك معه بالطرق الحضارية التجديدية للمنتج الصناعي والفكري والثقافي، بما يضمن السلامة والانعتاق من شَرَك الفخ الذي وقعت فيه حركة الصناعة والتطور في أغلب الدول النامية، وأخيرًا وليس آخرًا، فإن المراجعة الدائمة وإصلاح الخلل وتجاوز الزلل، من أهم عناصر السلامة من الفشل الإنتاجي.
0