المشي هو أكثر مظاهر الحياة نشاطًا؛ فبه نُهيئ لأعضاء جسدنا المرونة والقوة؛ لأن الجمود يؤدي إلى الوهن والتراخي لأعضائنا مع مرور الأيام، وقد قيل: “العضو الذي لا يعمل يهمل وينتهي”.
اخترع المشي في “كينيا” قبل ثلاثة ملايين عام؛ حيث أظهرت آثار الأقدام أن أنماط المشي تُشبه إلى حد بعيد تلك الموجودة لدى البشر الآن، وقد تطورت رياضة المشي عبر العصور؛ حيث أصبحت الرياضة الرائدة في أوروبا وأمريكا منذ عام 1860م.
لا زلت أذكر؛ مشرفتي البروفسورة “سيلفيا لوتكنز”، في حوالي الخامسة والسبعين من العمر، حين كانت تشجعني على مرافقتها في رحلاتها لتسلق الجبال في منطقة ويلز نهاية كل أسبوع.
أذكر عندما جاءت لزيارتي في منزلي الذي يبعد عن منزلها بأكثر من خمسة عشر كيلوا مترًا، عندما تعرضت لنزلة برد شديدة ألزمتني الفراش، جاءت مشيًا على الأقدام. كانت لا تستعمل مركبتها إلا في الضرورة، لذلك كانت تتمتع بحيوية، وشباب وعنفوان على الرغم من عمرها المتقدم.
إن كل شيء بالحركة يصح ويصلح، ويفسد بالركود، فأغلب تكويننا من الماء، والماء بدون حركة يفسد ويتلوث، وأستشهد بقول الإمام الشافعي:
إنْي رأيت وقوفَ الماء يُفسده…إن سال طاب، وإن لم يجر لم يطب
ومظاهر الكون حولنا تتحرك فالليل، والنهار، والشمس، والقمر، جميعها متحركة، كل ما حولنا يتحرك؛ فكيف نظل نحن جامدون لا نتحرك؟
إن الرياضة بكل أنواعها ضرورية للجسم، فمن الصعب أن نجد أيًا من النواحي التي لا يكون فيها للمشي فوائد، فرياضة المشي تُشبه الوقود للجسم، ناهيك عن دورها في خسارة الوزن والوصول للوزن الصحي، فربما جربت العشرات من الأنظمة الغذائية للتخسيس، غير أنها لا تعطيك النتائج التي تحصل عليها من رياضة المشي.
ومن أشهر الذين عُرفوا برياضة المشي في العصور القديمة، هو الفيلسوف الإغريقي “أرسطو”، فقد كان يحب المشي، ولا يحب أن يلقي محاضراته إلا وهو يمشي مع تلاميذه، ومن أجل ذلك سموا تلامذته بالمشائين، أو الفلاسفة المتجولين.
أما أشهر الذين عرفوا برياضة المشي في العصر الحديث، هو الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت”، فقد عُرفت عنه الدقة في برنامج المشي، لدرجة أن الناس وقتها كانوا إذا رأوه مغادرًا منزله ضبطوا ساعاتهم على الرابعة والنصف عصرًا؛ لأن هذا هو موعد الفيلسوف للتنزه!، واليوم أقيم معلمًا سياحيًا في مسقط رأسه بمدينة “كونسبرج” الألمانية، يرتاده السياح ويقصدونه من بين بقية المدن الألمانية يسمى”نزهة الفيلسوف”، وهو نفس المكان الذي كان يتنزه فيه “إيمانويل كانت” برياضته المفضلة المشي!
وعملاق الفكر العربي “عباس العقاد”، عُرف عنه هو الآخر ببرنامجه الدقيق في المشي، والذي كان لا يعزف عنه مهما كانت الظروف.
وأختم بالدكتور محمد حسين هيكل، فقد كان يقطع المسافات الطويلة وبشكل يومي، لدرجة أنه كان يتعب من يرافقه، وقد ذكر الأستاذ “ثروت أباظة، في مذكراته، كيف أنه كان يتعب وهو شباب في مجاراة الدكتور هيكل -الكهل- خلال المشي”.!
0