المقالات

هل القوة بيد الإنسان فعل أخلاقي؟

كعادتي في قراءاتي الصباحية، كنتُ أقف عند بعض أحداث التاريخ كثيرًا، وأحاول ربطها بمفاهيم الأخلاق الفاضلة في مشهد يمكن القول عنه إنه “يوتوبي” يشبه كل من كتبوا عنه عبر تاريخ الفلسفة القديم والحديث وما بينهما!

تجلى لي أن كثيرًا من الوقائع المفصلية في تاريخ استمكان القوة من قبل البشر، كانت تتحد بشكل مُزعج مع السلوك غير الأخلاقي، وتتعارض مع الفضائل التي وردت على سبيل المثال في الكتب السماوية والاتيقيا التي صاغها على سبيل المثال الفيلسوف الهولندي الكبير باروخ اسبينوزا !

لعلي أدعي أن الإنسان حينما يمتلك القوة على المستوى الفردي المتواضع يتعامل بذات العقلانية التي يتعامل بها أي نظام عسكري أو قيادي منفلت ومتسلط؛ فقيمة القوة في الفكر الفردي الأحادي مساوية في المقدار والمحصلة لقيمتها في التجمعات المنظمة.. ببساطة سيتعامل الفرد مثل الجماعة كطاغية حينما يمتلك قوة لا يحكمها أطر تنظيمية أخلاقية صارمة.

وقد يعتقد البعض أن حديثي عن القوة يعني السلاح والعتاد والنفوذ.. بالطبع ليس هذا فقط بل إن قوة المعرفة، وقوة الوجدانيات، وقوة الماديات، وقوة العواطف والمشاعر، وقوة التخيل والتصور، وقوة الإبداع والموهبة، وقوة الجدل والمناقشة، وقوة الاقتصاد وغيرها كلها قوى ستصبح غاشمة في لحظة انفلات محددات التحرك السليم، بل ستتحول من جوهرها الخيّر إلى نقطة متطرفة تحول مشاهد اليوتوبيا إلى ديستوبيا مقيتة تستبدل الفضيلة بالرذيلة والخير والسلام بالشر والدمار.

حينما يستغل طفل في الثالثة أو الرابعة من عمره جمال شكله وتدليل والديه له؛ لينال من حقوق شقيقه فهو يمارس قوة لا أخلاقية ظالمة.. هنا يمكن الحديث عن الجمال كقوة ظالمة، وحينما يقوم موظف يُداهن مديره في العمل بالترقي على حساب زملائه المجتهدين فهو يستخدم قوة المحاباة اللا أخلاقية..هنا يمكن الحديث عن الامتثال كقوة ظالمة، وحينما تقوم قوة عسكرية غاشمة بالانقضاض على قوة أخرى أقل عدة وعتادًا؛ فسيكون المشهد العسكري لا أخلاقي كذلك.. في هذه الأمثلة الثلاثة سيكون الطفل والموظف والكوماندوز العسكري مُلّاك قوة لا أخلاقية.

بقي أن أطرح الجواب لسؤال القوة اللا أخلاقية، ولعلي أستدرج التاريخ مجددًا وكيف أنه قام بترويض أصحاب النفوذ؛ ففي جملة العلاجات التي قدمها لنا العلاج الروحي المتمثل في المعتقد السليم الذي يؤمن بقيم الفضيلة والخير والحق والإنسانية.. هنا سيكون الإنسان مفرطًا في إنسانيته، وستتقزم قوته أمام قوة القيم الخالدة.. الأنظمة والقوانين والمواثيق المحلية والدولية الملزمة والفورية علاج ثانٍ للقوى الغاشمة. لا قيمة لقوانين مؤجلة التنفيذ، مائعة الشكل، مترددة أو هزيلة.. قوانين جرائم استغلال القوة يجب أن تكون أقوى من أي قوة، بل لعلها أن تكون هي القوة بذاتها.

استغلال القوة لا أخلاقيًا لم يكن سوى الهم الذي أتعب الأنبياء، وحير الفلاسفة، وأجهد المربين والمعلمين، وعانى منه المصلحون والتنويريون.. ببساطة هو الموضوع الذي ألفت لأجله ملايين المطبوعات ومثلها من المحاضرات وما يعادلها من السجالات، وهو موضوع قد يمكن لنا وصفه بـ”موضوع حدّي” أي أنه يمثل حدًّا بين أن يكون الإنسان إنسانًا أو لا يكون فيتحول لتمساح يلتقم غزالًا عطشى عند حافة النهر كان ذنبها أنها تروي كبدها، ولعل الفارق أن التمساح مارس فطريته فاستخدم قوته ليقتات بينما مارس الإنسان الظالم حيوانية التمساح؛ ليبرر بها تفوقه الإنساني المشوه.

لقد امتدح الله القوة الأخلاقية، ولم يجز القوة المجردة والمنفلتة، وحث على ذلك في أكثر من موضع ! ألم نقرأ (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ) (القصص: 26)؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى