استكمالًا لما سبق من حلقات عن الحفلات والفنون الغنائية في مدينة الطائف عند قدومي إليها في بداية التسعينيات الهجرية من القرن الماضي؛ شاهدت حفلة أخرى لقبيلة (بني شِهر) بمنزل خاص في حي الشهداء الشمالية. الجميل في الحفل أن المنزل مزدان بعقود الكهرباء المتدلية من الأعلى للأسفل؛ فتحوَّل المكان وكأنه شُعلة متوجهة تُرى من بُعد، وهو تعبير جميل يتناسب مع السعادة والأنس المصاحب للأفراح التي تُقام في منزل العريس أو بمنزل أحد جيرانه قبل انتشار قصور الأفراح، وفي الأرض الفضاء المجاورة للعرس أقيمت حفلة (اللّعب) أو (الخُطوة) لقبيلة بني شهر … يقف المشاركون على هيئة صفين متقابلين، وفي الوسط فرقة مصغّرة من المختصين بالطبول، ومشارك يولول بـ(النِّجْر) وآخر يصفق (تَنكه) بما يتناسق مع صوت الدفوف، فتتداخل الأصوات والأنغام مع حركات راقصة منظمة ومرتبة، تتخللها حركة تقدم وتأخر بالأرجل وهبوط للأسفل … الجميع يؤدي الرقصات بشكل حيوي ومثير للبهجة، وفي الوقت نفسه يُردد المشاركون ما يُلقي عليهم الشاعر من أشعار خفيفة متناسقة مع النغم. وقد أثار إعجابي أن الأبيات الشعرية تخلو من هجوم شاعر على آخر، ومن طابع الحماس والمدح … الشِّعر هنا كله أبيات خيالية تتحدث عن المعاناة والصد والجفاء من (المحبوب)، ويستخدم الشعراء مصطلح (الدواء) كرمز متعارف عليه للمعني بالأمر، وإذا وصل الشاعر إلى هذه الكلمة (الدواء) وأراد أن يبث مشاعره بوضوح للسامعين؛ ضرب صدره بخفة وأغمض عينيه، وهزّ رأسه يمنة ويسرة. عندما تُسمع الأبيات يجد الإنسان نفسه في وكأنه أمام مسرحية تراجيدية وخيال بديع، مع صوتٍ لشاعرٍ غالبًا ما يكون نديًّا، يزداد جماله مع ترديد المجموعة لما يقول من شِعر؛ وكأنهم يُشاركونه آلامه ومعاناته … لا أتذكر ما قيل في تلك الحفلة من أشعار، لكن الصورة العامة والخيال الشعري لا يزالان في مخيلتي ويشبه أبياتًا متداولة من أمثالها قول الشاعر:
عيني اللي تقول ياكم راجمات به
لين تِلفِت شرايينه وتاجه والعنا بان
حبنا يالدواء ما هو بحرب راجمات به
للتقيتك يبين سروري والهنا بان
ومنها:
أنا إن تنزف عيوني دم وشوف الدم عمني
حبك اللي بلاني يالدوا واعميتني به
طعمة حاليه يالله تجازي من طعمني
أحفظ الود مهما حصل باعتني به
في تلك السنة من عام 1390 هجرية عندما وصلت مدينة الطائف قدومًا من مدينة الدمام؛ لم تتيسر لي فرصة لكي أُشاهد منازل (الحضر)، وأعني بهذا القادمين إلى الطائف من مكة المكرمة ومن جدة – في الصيف – ولهم مساكن في الطائف، أو الساكنين أصلًا في الطائف منذ أمد بعيد. فمسكني القسري آنذاك هو المقاهي أو (العِزب) الخاصة بالطلاب والمعلمين (العُزاب)؛ لكن أتيحت لي فرصة عقب سنوات عندما أصبح لدي أصدقاء من (الحضر)؛ حيث وجدت منازلهم جميلة مرتبة، والضيف يجلس على (الكنب) وليس على المفارش الأرضية وفي أركان المجلس تتوزع مزهريات تتعانق وتتمايل منها زهور بلاستيكية، أما في الوسط فتجد منضدة عليها مجموعة من الحلويات والمكسرات وطقمًا خاصًا بالشاي وعلبة مليئة بما يسمى (سكر نبات) يُقال إن تناوله يحسن صوت المُغنّي. لكن الملفت للنظر والذي له علاقة بالفن الطائفي؛ هو وجود آلة العود – أحيانًا – على المنضدة أمام الضيف، وقد شاهدت عرض (كمنجة) واحدة أو أكثر على جدار المجلس، وهي ثقافة كانت منتشرة ومرتبطة بزمن محدد ثم اختفت تدريجيًّا بعد عام 1400 هجرية 1980م.
كانت تلك الوقفات ضمن مجموعة من الجماليات التي وجدتها في الطائف .. لم أجدها في أي موقع آخر خلال مروري بعدة مناطق في المملكة شرقًا وغربًا .. ولعل النواحي الديموغرافية والبيئية لها دور في وجود سمات وفعاليات تتميز بها مدينة دون أخرى.
في فترة لاحقة عام 1397 هجرية / 1977م عاد الملك خالد -رحمه الله- من خارج المملكة بعد رحلة علاجية؛ فأقام أهالي الطائف حفلات للابتهاج بعودته معافى ….. …… (للحديث بقية)