(المتأمّل في دولاب الحياة وتقلباتها، يُدرك حقيقة خالدة تالدة، تتمثل في ديمومة الصراع بين المتضادات والمتناقضات؛ لتخرج في النهاية بمنتج ليس بالضرورة يتسم بالجدة، خلافًا لما ذهب إليه (هيجل) الذي جزم بصيرورة الجدة في عالم الفكر، ولم يخرج من معمعة الوثنية في صراع الديالكتيك لديه، ولم يولد التوحيد الخالص في (نفي النفي)، أو (كارل ماركس) الذي سرق النظرية المذكورة وصيرها في عالم المادة، وتنكب أهمية الفكر وانتهت به نظريته إلى الإلحاد، بخلاف حقائق القرآن التي تنص على أن صراع فقه المتناقضات أكبر من أن يحصر في الفكر وحده أو في المادة وحدها، أو حصر سرايته في منتج جديد بعينه، بقدر ما يحمل الصراع في طياته فقه سنن الله الكونية والقدرية والشرعية بين رسالة الحق، وجماح الباطل المأزوم والمهزوم في نهاية المطاف أو فقه المآلات، ويكشف في ذات الوقت للمسلم أسباب القوة، والنصر، والهزيمة، والغنى، والفقر، والعدل، والظلم، والعزة والذلة، والصلاح والفساد، والضلال، والهداية، ويسوقنا إلى فهم صيرورة فقه الصراع بدقة متناهية، مما يُساعد حتمًا على ضرورة التعامل مع المستجدات وفق ناموس الشرع الحكيم، الذي أجاب على كل الأسئلة الحائرة الذي فشلت الفلسفة الحديثة والقديمة في معرفة كنهها وحقيقتها والإجابة عليها، والتي كشفت جانبًا حيويًا من حياة الإنسان في ظل صراع (الحور بعد والكور أو قانون الديالكتيك) وأعني به التحول من الضلالة إلى الهدى، ومن الانحراف إلى الصلاح.
ويشير إلى ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: (لكل عابد شِرة، ولكل شِرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي) ولكشف كنوز هذا الحديث العظيم، فيمكن أن ننزله على حياة المسلم الصائم بعد رمضان، فإن طبيعية البشر وما ينتابهم من تحولات، وما يلم بمشاعرهم من السآمة والملل، تصل إلى حد التبرم من المألوفات، وهنا يكون موضع الخطر وموقع الزلل، ففي ظل تنازع مشاعر الضعف البشري، والتي تبدأ بأخذ تلابيب المشاعر البشرية صعودًا ونزولًا، فمن المستحسن أن نسجل حال الصائم بعد رمضان، وهل تنطبق عليه نظرية الديالكتيك بشطريها المعنوي (عند هيجل) أو المادي (عند كارل ماركس، وهيجل، حيث لم يصلا إلى الإيمان الصحيح الكامل)، بينما سارت نظرية كارل ماركس وانجلز المادية إلى مهيع الإلحاد الخالص، وعلى النقيض قانون ديالكتيك الإيمان الحق، والذي قلب ظهر المجن لهذين المذهبين الأنفي الذكر، من خلال نتائج الصوم الصحيح الذي أنتج لبوس التقوى خلال ٣٠ يومًا وساق نحو الكمال البشري الممكن، وإحداث نقلة موضوعية وحقيقية شاملة في مجرى حياته، لا تصيره مَلَكًا كريمًا ومعصومًا بالطبع، ولكنها تصنع منه القدرة على مواجهة الضلالة، والعودة إلى أفياء الهداية كلما زلَّ أو ضَلْ (بإذن الله تعالى)، بيد أن هذه الملاحظات الحيوية، لا تخطر على بال السواد الأعظم من العوام، مما يلزمنا أن نتعلم فقه (العلة) ونلتمس على حواشيها مقتبسات الحكمة، والتي غابت عن منظري المذاهب المادية وفلسفتها، وغطت في الإسلام بسرايتها المباركة سائر العبادات، والتشريعات، والآداب التي حفل بها الإسلام (عقيدة، وشريعة، وعبادات، وأخلاقًا).
وقد نال قصب السبق في هذا المجال الكثير من الفقهاء والعلماء، من خلال إبراز وترسيخ علم العلة وتلمس مواقعها، وربطها بناموس الهداية والاستقامة مثل الإمام الغزالي (رحمه الله) في مقدمات أبواب كتابه (الأحياء) والإمام ابن القيم (رحمه الله) في عدد من كتبه ومن أبرزها (مدارج السالكين، ومفتاح دار السعادة، والفوائد) وخاتمة المحققين العلامة ولي الله الدهلوي (رحمه الله) في كتابه (حجة الله البالغة)، وهذا كله مما لا يهتم به الوعاظ المعاصرون وخطباء الجمعة (إلا من رحم الله) فالإنسان جُبل على حُب المغنم والفرار من المغرم، وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، العناية البالغة بأسلوبي الترغيب والترهيب في توازن واعتدال، باستثمار مما فطر عليه الإنسان من حب التملك، والاستحواذ على المنافع، والنأي عن كل ما يضره، ومما يخاطب به هذا الأسلوب ممن له علم سابق، أو فطرة سليمة لم تتلوث بالشبهات، ويتوجه خطابه بقوة لدى المؤمن الفقيه، الذي يترقى سلوكه من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن مما يقتضي استخدامه باعتدال، بما لايبعث على الإملال والسآمة، ومن فضل الله تعالى أن مكاسب الصوم معززة ببرامج جديدة تبعد عن المسلم السآمة والملل، وتقيه الوقوع في مغبة فريسة الشهوات والشبهات، والنهوض سريعًا كلما زلت به القدم، فالصوم وقود إيماني قوي، يبني معالم الإيمان والتربية الأخلاقية المتينة، ويمكن رسم خريطة تربوية وإيمانية دقيقة في ضوء الإسلام، تغطي يوم المسلم ودهره، وعمره، دون أن يحرم من لذائذ الحياة ومتعها السوية، وفي القرآن الكريم مثالان عظيمان يجدر التذكير بهما، إحدهما لامرأة حمقاء بمكة كانت تبرم غزلها طول يومها وليلتها، فإذا أبرمت ما غزلت نقضت غزلها من جديد وهكذا دواليك يقول تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ)(سورة النحل: الآية 92) ومثل آخر لرجل عابد صالح تعرض لفتنة النساء الحسناوات، وانهزم أمام شهوته على حساب دينه، كما في قوله تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة الأعراف: الآية 176).
وهذا المثلان المُفعمان بالحكمة الناطقان بالبرهان، يسوقان المؤمن إلى أنه لا مندوحة من مجاهدة النفس إلى نهاية الطريق اللاحب الطويل، كما قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (سورة الحجر: الآية 99)، ومن المنطقي وفق ناموس الوحي المعصوم أن غد المسلم خير من أمسه، وكلما طال به العمر ازداد بصيرة، وحكمة، وتعقلًا، ونأى بنفسه وخلقه وطباعه وعاداته عن بنيات الطريق، وليس من شك أن ماهية الصوم الحقيقي فرصة لا تُقدر بثمن للتجديد ونفض غبار النمطية والرتابة في حياة المسلم نحو التجديد، وكلما عثر فاق واستفاق، وهذا باختصار جدلية فهم علة تشريع الصوم أو ديالكتيك الصوم.
0