لطالما كنتُ صارمًا جدًّا في قضايا الالتزام بالموعد بدقة تصل حد الانزعاج عند الآخرين، وربما النزاع.
لا أبالغ حينما أقول إنني قطعت علاقتي نهائيًا ببعض الناس بسبب بضع دقائق، فأنا لا أقوى على كبح جماح انفعالي تجاه من يتأخر عن موعد تم إبرامه سابقًا، وحينما يتأخر أحدهم ولو قليلًا ويجدني غاضبًا ثم يحاول تبرير الموقف لا تفسيره أجدني نسخة كربونية من الفرزدق الذي قال:
أحلامنا تزن الجبال رزانة
وتخالنا جن إذا ما نجهل !
ولا أخفيكم القول إنني كنت أحاول أن أكتم حنقي تجاه المستهترين، ذلك أن تأخر أحدهم عن موعد مبرم سابقًا ولو قليلًا هو ضرب من الاستهتار بالمنتظِر وبرود لا مبرر له.. ببساطة أراه نيلًا من الذات قبل الزمان.. بيد أني فشلت في ذلك الكبح.
وأنا أقرأ للعقاد وجدت أن هذا الرجل قد فاقني في حنقه على المتأخرين؛ فكان هذا عزاء سرني قليلًا أن هناك من يفوقني في حدة المزاج؛ فقد جاءه رجلٌ من بلاد الملايو في آخر الدنيا ليشتري من العقاد حق ترجمة كتبه “العبقريات” وضرب له العقاد موعدًا عند الساعة الخامسة عصرًا، وما إن أعلنت الساعة الخامسة عصرًا ولم يحضر ضيفه حتى طلب العقاد ممن كان معه أن يغلق باب الشقة الذي تركه مفتوحًا جريًا على عادته حينما ينتظر من يأتي إلى صالونه، وللمصادفة وجد جليسه أن الضيف وصل عند الباب عند الخامسة ودقيقة واحدة؛ فسمح له بالدخول.
لم يرحب به العقاد، وانطلق ضيفه يشرح له عن أنه أضاع منزل العقاد وأنه يعتذر عن تأخير الدقيقة؛ فاشتاط العقاد غضبًا: كيف لأحد ألا يعرف منزل العقاد ومكان شقته؟ فألغى صفقة الترجمة وتجهّم في وجه ضيفه مما اضطره للمغادرة، وقال والله لو دفع لي ٢٠ مليونًا بدلًا من عشرين ألفا فلن أتم معه هذا الاتفاق.
ليس التبرير بمقبول لدى العقاد بقدر ما هو الانتظار للتفسير المقنع، وهذه إحدى مآسي العقلانيين الذين يشقيهم ظنهم.. بيد أن الأمر ما استقر في النفس وصعب انتزاعه منها.
على أية حال، حسبي أنني وجدت العقاد أعنف مني في ضبط ساعة غضبه باتجاه الثورة والثوران، وفي ذلك عزاء لي، وفيه بلاء له .. والله المستعان.