رحل بدر بن عبد المحسن، غاب عنا.. ومضى إلى دار البقاء إلى رب كريم رحيم، لطالما كان البدر عظيم اليقين بوحدانيته، عظيم الثقة في رحمته، عظيم التوكل عليه، رحل البدر بجسده الذي وراه ثرى وطن أخلص له، وأحبه أرضا وسماء، وطن رسم مكانه بكلمات نعشقها، نسمعها ونرددها، ونظل نغنيها أبدا “فوق هام السحب وإن كنتِ ثرى.. فوق عالي الشهب يا أغلى ثرى…” رحل بدر بن عبد المحسن عن أحباب سيظلون يبكونه ما ناحت الحمائم، وحنَّت الإبل، وهبت الصَّبا.. رحل وتركهم في “غربة وليل” ودَّع البدر أحبابه وهم يقولون كما قال:”يا خطوة دمع فوق الخد.. يا جرح.. يا عمر ماله حد.. يا حب كبير.. يا حزن كثير.. يا ليل البعد والتفكير…”!
رحل ذاك الذي كان يزرع الأملَ ويسقيه من فيض روحه العذب، ويسكب عليه من جداول مشاعره الدافقة جمالا ومحبَّة “عندك أمل عندك.. محتاج أمل عندك… عندك أمل يضوي نجومي في السَّما.. عندك أمل يروي بساتين الظما…” رحل البدر وقد كان شامة في جبين الوفاء، رمزا في صدق العطاء “أنت حبيبي.. والهوى صحبة وطريق.. أنت رفيقي.. وما أبي غيرك رفيق…”.
رحل البدر، بعد رحلة طويلة في طريق أضاء فيه المصابيح، وزرع على جنباته الورود تلك الرحلة الطويلة باتت كأنها ساعة من نهار أو أقل حين جاء نعيُّه! وذلك الطريق الذي أزهر معه، ذبلت كل أزهاره حين قيل: رحل بدر! وبحق تعب الطريق! “نام الطريق يعيوني أنا.. نام الطريق وسهرت أنا.. يا خطوه عذبها البعاد.. يا دمعه ذوبها السهاد.. تعب الطريق ما تعبت أنا” رحل بدر بن عبد المحسن وكأني أسمعه يقول: “سامع ندايا يا قمر؟ حاسس معايا بالسهر؟” نعم يا بدر عشاق إبداعك ومحبوك لا يزالون يسمعون لك، وسوف يظلون في ذكرك الحَسَن، ويُحسُّون بحالك.. ويتذوَّقون ما جُدْتَ به عليهم من جمالك؛ حتى وإن “طالت مشاور العذاب.. وصارت أمانينا سراب”!
رحل البدر عن دنيانا، وأُخِذَ في موعده المحتوم.. وقد كنا ــ ولا نزال ــ نسمعُه في عتابه يقول: “خذاك الموعد الثاني.. نويت تغيب وتنساني.. مشت بك خطوتك لبعاد.. تركت لدمعتي ميعاد”! غبت عنا يا بدر وما غاب طيفُك، وابتعدت عنا يا بدر وما ابتعدت حروفك، لن ننساك أبدا، وصرنا نحن الموعودين بالدموع!
رحل بدر بن عبد المحسن وهو المحبُّ لدينه ولوطنه ولقيادته، وقد كان ــ رحمه الله ــ يُعطي المحبَّة ويمنحها ويعيش بها “عطني المحبَّة.. كل المحبَّة.. عطني الحياة.. عطني وجودي.. أبغى وجودي.. أعرف مداه..” ومداه متجذر في الأعماق أعماق الأرض والإنسان!
عادت بالبدر خُطواته ليلقى ربَّه الكريم الرَّحيم، ونحن نقول له ولو غاب: “الله يرد خطاك لدروب خلانك.. لعيون ما تنساك لو طال هجرانك..”! وخطواته باقية بيننا في قصيده الذي نقرؤه ونسمعه من أفواه شدت به قديما، وسوف تشدو به مستقبلا.
“وترحل صرختي تذبل.. في وادي لا صدى يوصل.. ولا باقي أنيين” رحل البدر وأطبق الصَّمت على الشّعر والأغنية “زمان الصَّمت.. يا عمر الحزن والشكوى.. يا خطوة ما غدت تقوى.. على الخطوة.. على همّ السنين…” رحل البدر وقد كتب اسمَه في الأرجاء، وفي العقول والقلوب “كتبت اسمَك على صوتي.. كتبته في جدار الوقت.. على لون السما الهادي.. على الوادي…”!
رحل بدر بن عبد المحسن، فحزن الشِّعر، وبكت القصيدة، وقصَّت الأغنية ضفائرها لما فُجِعت فيه “قصَّت ضفايرها ودريت.. البارحة جاني خبر…”. وصار خبرُ موت البدر حديثَ الناس من متذوقي الأدب، ومن العارفين بالرجال المبدعين المؤثرين الغيورين على بلادهم وأمتهم في الوطن وخارج الوطن “صارت هي الخبر الجديد.. وعلومها همي الوحيد.. وش همّ لو كانت بعيد.. غصب عليْ حبيتها…”. حتى لو ابتعدت يا بدر سنظل نحبك!
رحل “مهندس الكلمة” وفارس الشِّعر، الذي كتب للأغنية السعودية أجمل ما صدحت به، وشكَّل أيقونتها، وأسهم بأكبر نصيب في بناء شخصيَّتها.. رحل البدر وسافر “مركب الهند” يطوف بصيته الدنيا كاتبا اسمَه وعنوانَه.. “يا مركب الهند يبو دقلين يا ليتني كنت ربانك.. وأكتب على دفتك شطرين.. اسمك حبيبي وعنوانك… يا بحر موجك عليْ عالي.. وطيفه حبيبي على بالي.. والبعد قاسي.. وحبيبي ناسي.. والله.. يا ربعي.. وأهلي.. وناسي.. مشتاق قلبي لخلانه…” طيفك يا بدر لن يغيب والبعد يا بدر قاسٍ، لكنه لن يجعلنا ننساك!
كان البدر أمير الكلمة الشَّاعرة، وإذا شئت فقل: أمير الشِّعر، وفارس الكلمة المموسقة قال الخليل بن أحمد: “الشُّعراء أمراء الكلام يُصرِّفونه كيف يشاؤون” فإذا لم يكن بدر بن عبد المحسن أميرا للشِّعر في زمانه، فمن يحقُّ له أن يكون كذلك؟! فقد جدَّد في أساليبه، وحلَّق في سمائه، وغاص في معانيه.. قطف المعنى الجميل، وكساه المفردة الأجمل، ولبست قصائدُه أبهى الحُلل.. في مقابلة له سُئل عن أحبِّ أبياته إلى نفسه؟ فتحدث بأسلوبه السَّهل الممتنع وبتواضعه الأخَّاذ: ما أدري! أنا كل قصيدي قريب لنفسي، واحنا نجتهد في توظيف الألفاظ، أما المعاني فقد سُبِقنا إليها! وهذا من تواضعه ــ رحمه الله ــ ومن وعيه أيضا بحقيقة الإبداع، وبُصْره بالشّعر، وإدراكه للقيمة الكامنة في انتقاء الكلمة المفردة وتوظيفها. قال الجاحظ: “والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ والقرويُّ والبدويُّ، وإنما الشَّأن في إقامة الوزن، وتخيُّر اللَّفظ، وسهولة المخرج، وصحَّة الطَّبع، وجودة السَّبك، وإنما الشِّعر صياغة وضرْب من النَّسْج، وجنس من التَّصوير”. وفي ديوان البدر ـــ يرحمه الله ـــ تكاد ترى الفصيح نبطيا والنبطيَّ فصيحا؛ فقد كان شاعرا مطبوعا وصادقا، وكان مُتفرّدا في إبداعه، لا يرضى بأن يُشبَّه بأحد فضلا أن يكون مُقلِّدا لأحد! فنقش لنفسه بصمتَه التي لا تخفى، ورسم في الشِّعر طريقته التي تمثلُه هو وحدَه.
أعتذر يا بدر إذا قصرنا في تأبينك؛ فقد كنت تعتذر بطريقتك التي لا يُحسنها سواك “أبعتذر عن كل شي.. إلا الهوى.. ما للهوى عندي عذر.. أبعتذر عن كل شي.. إلا الجراح.. ما للجراح إلا الصبر…” فاجعتنا بفقدك كبيرة، ولا نملك إلا الصَّبر، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا. رحمك الله يا بدر رحمة واسعة، فقد كنت في إنسانيتك ومروءتك ووطنيَّتك وفنِّك.. كنت أنموذجا وظاهرة لن تتكرَّر.
“قلت المطر.. قالت من اليوم ديمة.. ما به رعد.. لا برق.. ما غير هتان.. عشق جمع ما بين قاع وغيمة.. سيَّل على صدر الثرى دمع الأمزان.. همس النديم الي يعاتب نديمه.. صوت المطر كأنه تعاتيب خلان.. تبسمت لأجل الليالي القديمة.. وقالت تذكر.. قلت يا بنت نسيان.. نقض الجروح الي تشافت ظليمة..! ما عاد به وصل.. ولا عاد هجران.. ما للرَّجى في بعض الأحوال قيمة.. ما للعمى صبح ولو بات سهران.. لو للزَّمن عن نيَّة الغدر شيمة.. ما فرَّق أحباب ولا بعَّد أوطان.. لا شك وينك يا القلوب السليمة.. الي تجازي عن خطا الخلِّ غُفران.. كلّ خصيم وذاق لوعة خصيمه.. والي خصيم الوقت يا بنت خسران”! وجرجنا في فقدك يا بدر لا يتشافى، وخسارتنا في غيابك لا توصف؛ لكننا نعدك أن تظل قلوبنا تخفق بالدعاء لك. “ويا عسى الضُّلوع توقي القلب لا طاح”!
“الله الأول وعزك يا الوطن ثاني.. لأهل الجزيرة سلام وللملك طاعة”
0