من سنن الله تعالى في خلقه، التناغم والتوائم والتكامل بين سائر مخلوقاته؛ بحيث لا يجد العقل البشري مزيدًا من الاقتراح بالزيادة، أو ثغرة هنا للنقص، لا بل كل ما نُشاهده من الاختراعات والمكتشفات البديعة، ما هي إلا قوانين منتزعة من خلق الله البديع، نجح الإنسان في اكتشافها وصيرها بالبحث والتجربة والمحاكاة صنعًا بديعًا آخر كما قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ (سورة العلق: الآيات 1 – 5). فلم يأتِ الإنسان بجديد من بين يديه ولا من خلفه، سوى أنه اكتشف قوانين تلك المصنوعات انتزاعًا من الطبيعة التي سخرها الله للإنسان، واستبان ذلك بوضوح في اكتشاف قوانين الكهرباء والهاتف والرادار.. إلخ، وهذا التناغم والتناسب العجيب في العالم غير الناطق والمفكر، يقابله تناقض وفقدان وتصادم غريب حقًا، يتمثَّل في الصراع المقيت فيمن أكرمهم الله -عز وجل- بالعقل وسائر الجوارح كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (سورة الإسراء: الآية 70)؛ لنلحظ شذوذ هذا الإنسان وانتحاله صناعة الخلاف المُفتعل، وركوبه مطية العناد الملح، وتسعير الحروب الكلامية، والتي ترتقي أحيانًا إلى الدموية، وإشعالها والمصارمة والهجران على هوامشها، إشباعًا للنفس الجموح، وتغذية للنفس الأمارة بالسوء، ولا ينقضي العجب حين نرى ذلك فيمن يدَّعي الإسلام والعلم والثقافة، وهو سادر في غيه، منغمس إلى أذنيه في هواه، تتنازعه مشاعر الِكبر والحسد والسخرية والاستهزاء، ويؤججه أزيز التعصب، وحمى التصنيف والتحزب لكل من يُخالف رأيه وتوجهه، وعند التحليل الدقيق لعلل هذه العقول المريضة والشاذة، ندرك بما لا يبعد النجعة عن كبد الحقيقة، استباطنها لتلك الأدواء المعيقة للأخلاق الفاضلة مثل: الحسد، والحقد، والتعصب، وسوء الظن، والكِبر رغم ادعائها الإسلام، والتي تقذف بدائها على ألسنتها وأقلامها سمًا ناقعًا، لا يرعى حُرمة لمسلم، ولا يحفظ عورة لمؤمن، بتهور خطير نحو مهاوي التكفير، والتبديع، والتضليل، والتصنيف، وتزول وتتبخر عندها جميع قواعد الجدل وأصول وآداب البحث والمناظرة بين هذه المخلوقات البشرية المنتكسة، فيلجأ كل قبيل إما إلى الاحتقار والتهميش والإقصاء، أو إلى الانتصار للحزب والطائفة والتيار، بخطابِ كيل التهم الجزاف للمخالف، ونسج معلقات المدح الجزال للموافق، ومن آيات التيارات المتناقضة، أنها تغض الطرف عن موبقات اتباعها وتزكية أفرادها، ولن يعدم الباحث بين الخصوم عن سماع ألقاب (العلماني والليبرالي، والإخواني، والسروري، والتبليغي.. إلخ)
والمفترض أن يكون ثمة تكامل بين النخب العربية والإسلامية على منوال الحديث الشريف (مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى) بدلًا من المصارمة والمحاربة، وهذا التشبيه البليغ في الحديث يسوق في نهاية المطاف عند صحيحي الإيمان وطيبي الأخلاق إلى الوحدة المنهجية الشاملة؛ حيث يكمل كل عضو الآخر، ولا يغني أحدهما عن الآخر، فإن مما قعد بالعرب حضاريًا حتى الآن، هو لوك الخلافات المعادة والمكررة، والتي تدور في حلقة مغلقة حول الهوية الحضارية.
ولم يدع علماء الأمة الإسلامية، أن تذهب الأمة أيدي سبأ، بقدر ما أصّلوا لها من القواعد والأصول ما يثري الاختلاف في الرأي، ويوسع أفق الحوار البناء، لتكون جميعًا مصدر إثراء، وبناء، وتكامل، وتلاقح للأفكار وفق قواعد منضبطة وآداب سامية رفيعة، ولا سيما في القضايا التي ينداح فيها النظر السائغ؛ حيث قرر العلماء بالإجماع عدم جواز الإنكار في المسائل الخلافية مما يسوغ الاختلاف فيه، ما لم ينكر ما علم من الدين بالضرورة، مما يطلق عليهم بالمسائل الأصولية الكبرى، ولكن غبش النظر، وداء التعصب المخامر للعقل، يصيب بميسمه المسموم كل مصنف ومتحزب، ورقيق الديانة، وخفيف العقل، فلا يلوي على شيء سوى تسليط ميسم سوء الظن وهراوة الإقصاء على المخالف له في الرأي والاتجاه، فلاجدوى حينئذ للحوار المؤطر بالنوايا الحسنة وسلامة الصدر مع هذا الصنف البشر، وتلك أدواء حقيقية تخب وتضع في عقول وأقلام النخب المعاصرين (إلا من رحم الله)، وهو ما قعد بالأمة في مؤخرة القافلة الحضارية، ويبقى السؤال المنطقي التالي: هل هذا الصراع عفوي أم وراء الأكمة ما وراءها؟؟!!
وللحديث بقية…
0