ثمّة فقد يأخذ منك كل شيء ويسلبك عقلك وقلبك يهوي بك نحو انكسارات الروح وانحسارات الضوء في زوايا العزلة والفجيعة ؛ لتبدأ الذاكرة في رحلة البحث عن ملامح البدر وتقصّي خطواته المتعبة والتي أتعبت قلوب عشّاقه ومحبيه من المحيط إلى الخليج ..
البدر الإنسانية التي أسرت كل محبّي الشعر بمختلف توجهاتهم وبحور فكرهم ، وارتقت بهم نحو عوالم من فضاءات الشعر وجمال اللغة الراقية التي أودعها روحه البيضاء المليئة بالنقاء والصفاء ، والعميقة المشبعة بالتراث والأصالة والحب والانتماء ، فالبدر رائد مدرسة الحداثة في الشعر الشعبي ” النبطي ” المعاصر وحامل لواء الجدّة والابتكار وصانع الصور الفنيّة العميقة البعيدة والتي تولد من رماد المصابيح المتشبث بالصورة المتلاشية على ملامح الليل الضرير وكأنها الحلم الصغير تذكر !
على جسده البدوي بقايا الطين والحصير وسنا الشمس !
رسالة العربي الأصيل الذي جعل من تراثه وتاريخه وحياته اليومية قصائداً حسناوات يتمنى كل عاشق أن يقع في أسر هواهن منذ النظر الأولى !
على آخر تراب الأرض ..
أحس أن المسافة شبر !
هذا القرب المعنوي يعكسه البعد الحسّي تورية اعتدنا عليها في لوحات البدر السيريالية التي تحتاج للكثير من قواميس اللغة والبلاغة لكشف كنوز أسرارها العظيمة تماماً كما يفسّره أحد دواوينه ” لوحة ربما قصيدة ” .. لم يلبث طويلاً إلا وإن يرسم لوحاته المتناقضة فنّاً ومفارقاته إبداعاً فاتناً لا يجيد عزف حروفه غير هذا البدر الساطع في الليالِ الوضح في العتيم الصبح ، وإن وقفت طويلاً في زمان الصمت المطبق على الرسايل العائدة من النسيان نحو الفجر البعيد لحظة الاعتراف ابعتذر عن كل شيء ، وهي السور والمسافة التي رفضها البدر تاركاً الصورة الخائفة المترقبة والباقية :
أنا وأنت في نفس الطريق ..
بس الخطا متباعدة !
البدر الذي تترسّم قصائده شخصيته الهادئة المفعمة بـ” الفنتازيا ” الأميرية قامةً ، والأرستقراطية قيمةً والإنسانية مكانةً ، والمكثّفة بالمشاهد التمثيلية القصصية الدرامية والحكايات التي تتنامى فيها الأحداث منجذبة للفكرة الأم والتي تتوحّد في الصورة الشعرية التكاملية الفريدة كالمطر والنار في موشّحة جمرة غضا ، وكلما أوغل البدر في سبر أغوار الإبداع وجدنا أنفسنا أسهل من الكذبة على شفة طفل ..
فرقى الأحبة يا هوى !
البدر الذي شكّل ذائقة الأجيال طيلة خمسة عقود ماضية من العمق الفني الذي خرج عن السائد التقليدي بعدما برع في بناء صوراً فنيّة مبتكرة جديدة ، وطرق معها العديد من الأغراض الشعرية الحديثة والتي اتسمت بغزارة المعاني ، وأصالة الألفاظ الموحية ذات الدلالات المكانية والزمانية في الوقت الذي نجح صوت الأرض طلال مداح ، وفنان العرب محمد عبده وبقيّة الفنانين في تجسيد قصائد البدر أصواتاً عابرة لكل الشعوب العربية كهوية فنيّة سعودية كاملة الجمال بعدما نقلت القصيدة السعودية
من إقليمها المحلّي والخليجي والعربي إلى العالمية عبر عقود من الاخضرار والانتماء والحب ؛ فهو الأديب الذي ارتقى بها فوق هام السحب في وطن تحدثت عنه روابي نجد .. عن وطن الشموس عن أئمة وملوك عن سيوف العزّ عن دارنا التي تشابه العروس عن مملكة الحب والسلام .
لا يلبث البدر إلا وأن يثير كل من يقرأ له ويدهش كل من يستمع له بالكثير من صور فلسفته الأنيقة التي تشبهه كثيراً وتأخذ من صوته وملامحه وأناقته أكثر وأكثر ، فكلما انتزع صورة جمالية وجدنا أنفسنا في حالة من المزاج العالي المليء بالدهشة والفضول ! كيف له أن يفعل كل هذا ؟
كالطفلة التي مازالت تحت المطر قبل أن تأخذك الليلة في موعد ثاني فيها من سوالف ليل ما يشبه السؤال الصعب سيدي قم !
البدر تلويحة الوداع في عزّ الحضور فلسفة العمق الذي يأخذنا معه عالياً نحو المسافر الذي فاته القطار ..
نحو الاستثناءات الفاخرة في زمن التشابه والاقتران ، وفي ليل التجافي وصرخة الوداع يترجّل البدر عن فضاءاته الشاسعة ومداراته الباذخة تاركاً للمحبين بعده إرثاً فنيّاً خالداً يصعب اللحاق به .
ومضة :
يقول البدر :
ناديتي خانتني السنين
اللي مضت راحت
ناديت ما كن السنين
اللي مضت راحت
كنا افترقنا البارحة
البارحه صارت عمر
ليله أبد عيت تمر