تعلَّمنا بأن المنطقة التي تمتد من جنوب العراق عبر سوريا ولبنان وفلسطين إلى شمال مصر تُسمى في (التاريخ القديم) منطقة الهلال الخصيب، وسُميت كذلك لوجود التربة الخصبة بالقرب من أنهار الفرات ودجلة والنيل؛ مما أدى إلى تطور الري والزراعة. هذه المقومات الطبيعية جعلت دول الهلال الخصيب موقعًا مثاليًا لتأسيس الحضارات القديمة، ونمت التجارة فيها وازدهر الاقتصاد وانعكس ذلك إيجابيًا على الثقافة والعلوم وحضارة تلك الدول بشكل عام. دول الهلال لا تمتلك “ثروة” المياه فقط، بل منحها الله موارد أخرى تشمل النفط والغاز الطبيعي والفوسفات والفحم والمعادن الأخرى.
في (تاريخنا المعاصر)، هلال تلك الأزمنة لم يعد كما كان خصيبًا، بل تحول إلى هلال جديب! هذا التحول وراؤه عوامل مختلفة، منها ما هو طبيعي: مثل قلة الأمطار والسدود التي أقيمت، والتي أثرت بدورها على منسوب مياه الأنهار وانعكس ذلك سلبيًا على تربة تلك المواقع، لكن هناك عوامل أخرى أكثر خطورة من الطبيعية.
واجهت دول الهلال تحديات كبيرة من منتصف القرن الماضي؛ حيث افتقدت تلك الدول إلى (الاستقرار السياسي) بداية من إسقاط الملكيات ثم الانقلابات العسكرية (أكثر من 25 انقلابًا في دول الهلال) تحت شعارات القومية والحزبية ومقاومة الإمبريالية ودعم الديموقراطية…، تلك الانقلابات جرّت دول الهلال نحو حروب مدمرة استنزفت الثروات والقدرات، وفتحت الباب على مصراعيه (لعودة) القوى الأجنبية إلى دول الهلال و(تغلغلها) مما ساهم في زرع الفتن الطائفية والعرقية والمذهبية، ثم تبع ذلك تأسيس الفصائل السياسية والعسكرية، وجميعها ليست تحت سيطرة الدولة المركزية؛ ولأن (ولاء تلك الفصائل) للداعم الأجنبي الذي يوفر لها المال والسلاح والتدريب، أصبحت تلك الفصائل (قوى وكيلة) عن الداعم الأجنبي، وتحولت دول الهلال إلى (أراضي حرب الظل) تتصارع فيها دول وفصائل ويتم تصفية الحسابات الإقليمية على أراضيها! أدى عدم الاستقرار السياسي والأمني في دول الهلال إلى تحديات كبيرة منها على سبيل المثال لا الحصر: ملايين النازحين داخليًا، صعوبة دمج المجتمعات السكانية التي مزقتها الطائفية والعرقية، تقلص الناتج المحلي لتلك الدول لأكثر من 60 %، ارتفاع معدلات البطالة مما دفع الكثيرون للهجرة خارج بلادهم، انهيار عملات دول الهلال، تدني مستوى الخدمات العامة (الأساسية)، إضعاف فرص الإصلاحات الاقتصادية وإلى تراجع ثقة المستثمرين وتباطؤ النمو الاقتصادي بشكل عام!
تذكرت حال دول الهلال، وأنا أقرأ التقرير السنوي لرؤية 2030، فحمدت الله على نعمة السعودية، ونعمة (الاستقرار السياسي) فيها وحكمة ملوكها ونأيهم عن المغامرات (الشعبوية)، فحافظوا على أمن شعبهم وثروات البلاد وأبحروا (ولازالوا) بسفينة الوطن نحو موانئ التنمية والرخاء والازدهار. قراءة سريعة “لبعض” فقرات تقرير الرؤية يظهر (النعم) و(كم) الإنجازات التي شهدتها السعودية خلال الأعوام الثمانية من إطلاق الرؤية.
ففي الوقت الذي نسمع عن الاضطرابات والفتن والقلاقل وتزايدها في دول الهلال، يخبرنا التقرير أن السعودية (مكنت) أكثر من 13 مليون معتمر من (خارج) السعودية لأداء مناسك العمرة. ماذا يعني هذا الرقم (13 مليون)؟ يعكس هذا الرقم حقائق كثيرة: استقرار السعودية، وما تملكه من إمكانيات أمنية وموارد بشرية احترافية تُحافظ على أمن وحماية هذا العدد القادم من (الخارج)؛ إضافة لمهامها المتعددة في (الداخل). هذا الاستقرار الأمني والأمان داخل نطاق السعودية له تأثيره الإيجابي على جوانب أخرى، ومنها جودة الخدمات الصحية المقدمة لسكان السعودية وزائريها؛ حيث يظهر التقرير ارتفاع نسبة التجمعات السكنية المغطاة بالخدمات الصحية إلى 96%. في المقابل، تؤكد تقارير المنظمات الدولية المختصة تراجع الخدمات الصحية في دول الهلال إما بسبب الحصار والعقوبات السابقة، وإما بسبب حروب الفصائل و(المتقاتلين بالإنابة) على أراضيها مما نتج عنه نقص الأدوية والمعدات الطبية وهجرة الأطباء.
ومما جاء في تقرير الرؤية أيضًا، أن نسبة الأسر السعودية التي تمتلك وحدة سكنية تجاوزت الـ(60%) بينما يعاني مواطنو دول الهلال من الدمار والتشريد والقتل. أما عن التطور التقني في السعودية، فقد بيَّن التقرير أن المملكة وصلت إلى المركز (31) في مؤشر الأمم المتحدة لتطوير الحكومة الإلكترونية، بينما تحتل دول الهلال مراكز ما بعد (130)؛ حيث تُعاني دول الهلال من زيادة الهجمات السيبرانية والإرهاب الإلكتروني؛ مما يجعل حماية بيانات دول الهلال من أكبر التحديات التي تواجهها تلك الدول وتحول دون تقديم الخدمات الحكومية.
لست هنا بصدد تعداد إنجازات رؤية 2030، بقدر ما أهدف إلى الربط بين دول الهلال وكيف كانت، ولماذا “تباطأت” التنمية عندهم، وإلى أين تريد القيادة السعودية “الوصول” مع شعبها، وكيف ستبني مجتمعًا حيويًا له مستقبل مزدهر يتمتع بالاستدامة والابتكار.
خاتمة
احذروا من دعاة الفتن المندسين تحت الشعارات الدينية والطائفية، والمذهبية، والعرقية، والعنصرية. وأن نتعلم من الدروس التي حولنا، والأهم من ذلك أن نتذكر بأن اليتيم في زمننا ليس من فقد والديه، بل (اليتيم هو من فقد وطنه)، وخذوا العبرة ممن (قد) يذهبوا إلى (رواندا).