المقالات

القصيدة يا بدر تسوى تعبها

“أنتي ما مثلك بها الدنيا بلد”
سطّر بها البدر (كما نحب أن نسميه توطيرًا لعلاقتنا الخاصة والاستثنائية به)
أغنيتنا الأثيرة منذ مولدنا وتهويدتنا الطفولية العذبة، وحاك بها خيالاتنا الصغيرة حول الوطن الكبير وحتى هذا اليوم مازالت ترن في آذاننا نحن الأجيال المتعاقبة منذ الثمانينيات.
عرفنا بها سمو الأمير بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز الشاعر ومهندس الكلمة وعرَّاب الشعور وعلمًا من أعلام الأدب السعودي والعربي. لم يكن سمو الأمير شاعرًا وحسب بقدر ما كان ظاهرة -رحمه الله- وتغمده بوافر غفرانه، وأنا في هذا المقام لست بصدد الكتابة عن مناقبه وإنجازاته التي لا تخفى على الجميع، ولكن سوف أسترسل قليلًا في الدور العميق الذي لعبه البدر في تشكيل هويتنا العاطفية على امتداد تاريخه الشعري.

حين كتب البدر
في الليالي الوضح..
والعتيم الصبح ..
لاح لي وجه الرياض..
في مرايا السحب..
كانت بداية اللهفة ومبعث الشغف للمغامرات الصبيانية التي سوف تتخذ مساراتها المختلفة في الرياض مدينة الحلم رقيقة الليالي وعذبة السهر، وكانت زيارتها في ذلك الوقت حالة شعورية طارئة وليست رغبة عابرة، وفي كل مرة أزورها تغشاني ذكريات القصيدة وتوجد البدر في “آه ما أرق الرياض تالي الليل”. في مرابع المراهقة الشاسعة اتخذ الحب بعد قصيدته الشهيرة “موت وميلاد” رتمًا فريدًا من التفاني بعد أن ثقب ثنائية العلاقات وحلق بمشاعره بعيدًا عن فوضى الود والصد قائلًا:
لمصافحك ربي خلق لي يميني
أمدها لك وصل وامدها ابعاد
ولبسمتك ترخص غوالي سنيني
همي يزول وصادق الشوق يزداد

لقد عشنا جميعًا رهبة الشوق الباكرة من الفقد للمسافر الذي نقشه في ذاكرتنا دون أن نعرفه دون أن نلتقيه ولو صدفة وهو يمضي في طريقه على رصيف العمر. وتجرعنا الوداع دون تلويحة تُجبر لوعة القلب وحده البدر كان يعرفه ونحن تقاسمنا الفاتورة.

وكل الليالي الفريدة التي سهرناها و نحن ندندن
“ردي سلامي للهوى” بعد أن تعشمنا
أن ” صوتك يناديني .. تذكر”
الصوت الذي لم يكن ينبعث إلا من قصائدك
ويتسرب أعزلًا إلى مواطن القلب وحنايا الروح بعدما أجاب بوجودية مطلقة “ما اخترت أنا أحبك .. محدن يحب اللي يبي” مغلقًا كل ملفات الأسئلة وحشرية الفضول ومُنهيًا كل حوارات النفس العبثية حول لماذا؟ وكيف؟

وبعد كل هذه الفصول ينعى البدر نفسه دون أن يدرك أحد في ليلة ١٢ فبراير ٢٠١٩
ما عاد لي في الشعر عشق ومطاليب
ولاهمني منها الوصل والتجافي
لي شفت أحفادي صفت لي مشاريب
وصغيرهم يركض على القلب حافي

لقد كانت لقصائد البدر صولات وجولات في سراديب القلب كما كانت لها في سماء الإبداع والشعر. لقد عشنا معها حالات من التأمل والحب أنثنينا لقصيدة وجفلنا لأخرى وانتهى بنا المطاف نستحضرها في مواقف عاطفية كثيرة. هذه حالة البدر الشعرية الخاصة الذي يعرفها جيدًا محبيه وقُراؤه.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى