إيوان مكةالثقافية

(أسارير الوهم ) للشاعر المبدع.. يحي معيدي

-«معاناةُ النفس الأبيَّة؛وتوليفة المعاني المصهورة في بوتقة الفن».
-استجلاء بعض معالم التجربة.
بقلم:محمد سلطان الأمير.
__________________
تقديم:
لطالما أشاد دارسو الأدب القديم والحديث، بمعرفة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الواسعة بالشعر جيِّده ورديئه؛ولطالما نوَّهوا بنفاذ بصيرته؛الألمعية وفكره الثاقب على كافَّة الأصعدة ؛حتى إنَّهم وصفوه في مقام الإجلال بقولهم : «كان من أنقد أهل زمانه للشعر؛ وأنفذهم فيه معرفة» .
ولاجدال أنَّ صحبته لنبي الهدى والرحمة عليه الصلاة والسلام من جهة،وطول معايشته لشعراء الجاهلية، وعصر صدر الإسلام ،وتمرسه بالأساليب العربية المتسنِّمة ذروة الفصاحة من جهة أخرى من أبرز العوامل المؤثرة في تكوين هذا المَيل الأدبي المستنير.
ولاغرابة أن يسير الركبان بمقولته اللامعة المتضمنة نظرته المنفتحة للشعر ،وقيمته الحضاريةفي الاضطلاع بهموم الأمة الإنسانية وقضاياها المتعددة .
وفي معرِضٍ آخر نراه يؤكد درايتَه تلك بقوله :«ومن خير صناعات العرب الأبياتُ يقدِّمها الرجل بين يدَي حاجته؛يستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم.».
ومن هذا المنطلق جاء إعجابه بشاعرية زهيربن أبي سلمى ،وتبوئِّه مكانته العالية في دنيا الشعر العربي إبَّانئذ، فخلع عليه لقب:(شاعر الشعراء)..
وهو في قراره هذا إنما يستند على مقاييس فنية تتميز بالدقة،وحسن الإصابة،وبُعد المرمى، أفصح عنها بقوله:
كان الشاعر زهير : «لا يعاظلُ بين الكلام،
ولا يتتبع وحشيَّه، ولا يمدح أحداً بغير ما فيه.!»
وتجدر الإشارة إلى أنَّ تلك المقاييس الفنية التي اعتمد عليها الخليفة عمر في معرِض المفاضلة بين الشعراء، أصبحتْ لاحقاً مصدر إلهام لجمهورالنقاد،وأفادوا منها أيَّما إفادة،في تقييم الشعراء ،وتوجيه مقادة النقد العربي وِجهته السليمة اللائقة به.
ولست أغالي هنا إذا وصفتُ ديوان شاعرنا بتلك الأوصاف العُمرية الخالدة في ذاكرة الزمن ،إذ ضمَّ بين دفَّتيه أنغام الشاعر الشائقة، وألحانه البارعة،وأحاسيسه المشبوبة ،في إطار البيان الطيِّع أو (السهل الممتنع) الذي فاضتْ به قريحته الوقَّادة.
وقد كنت أرجو أن أمرَّ على قصائد الديوان تباعاً بشيءٍ من التفصيل
و التحليل الملائم لكل قيثارة نغمية، ثم أرجأت ذلك خشيةَ الإطالة على الصحيفة وقرَّائها؛وآثرت الوقوف عند القصيدة التي خصَّها الشاعر بأنْ تحمل عنوان ديوانه الصادر حديثاً تحت عنوان: (أسارير الهم)،متصوِّراً أنَّها ربما كانت أقرب القصائد إليه، والأجدر بهذا الاهتمام المصروف إليها من جانبه،على أنَّ ذلك الاختصاص لايقدح في عرائس الشاعر الأخرى،أو يقلل من مكانتها لدى الشاعر والمتلقين.
وفي الأدب العربي نظائر مشابهة لما ذهب إليه شاعرنا ،ولاحاجة بي إلى ذكر نماذج منها، فهي معلومة لدى عامَّة القرَّاء .
_________________________
-عن الشاعر وديوانه:
كلمةٌ لابدَّ منها .
عندما أًتيح لي اللقاء بالأستاذ الرائد :يحيى معيدي -وذلك قبل عدَّة أشهر خلتْ- في منزله العامر بقرية (بوران الجازانية)؛أقمنا -بدون سابق إعداد- أمسيةً من أمتع الأمسيات الحالمة ،التي لم تزل حاضرة في الفكر والوجدان.
شخصيةُ الشاعر الإنسانية،وسعة معرفته باللغة وآدابها ؛وما إليهما من طِباعٍ فاضلة ألفيتُها يومذاك متحققةً،فيما يصدر عنه ،«واللؤلؤة أينما كانت،كان حسنها معها «كما يقول مالك بن دينار.
ولا أُذيع سرَّاً إذا قلت إنَّه أحد الرموز الأدبية المضيئة في وقتنا الحاضر؛لاسيما في منطقة جازان وأوساطها الأدبية.
وفي تلك الزيارة الماتعة أهداني ديوانه الصادر حديثاً: (أسارير الوهم)؛فكنتُ ليلتها كمن ظفر بكنزٍ أدبي نفيس ؛لشاعر فطن لمايقول؛وهو -باختصار- الصيرفي النادر في التعامل مع الكلمة المونقة واللغة الشاعرة.
ولمَّا تسنَّى لي الوقت المناسب أقبلتُ على قراءة ديوانه ،وعشت مع قصائده الحسان ،وترنيماته المركّزة الأخَّاذة ، فإذا بي أمام علَمٍ شعري باسق؛امتلك ثروات اللغة ،وأحسن استغلالها واستثمارها،
وإذا بي أمام تجارب شعرية جمعتْ صدق العاطفة،وسلامة التفكير، ورهافة إحساس شاعرها المتقد.
وفي غِمار مطالعاتي تلك تراءت لي جوانب من (مدارك فكر الشاعر) ماثلةً في ديوانه كالينبوع الزاخر المتدفق؛على مستوى ألفاظه الرشيقة الأنيقة،وفي أنين كلماته الحزينة، ومعانيه المبتكرة الداخلة فيما قال عنها صاحب الصناعتين «إنها تقع عندالخطوب الحادثة ؛ وتثب عند الأمور النازلة الطارئة».
أحسست أنَّ شاعرنا يشيّد مباني قصائده بإحكامٍ شديد، ويتأنَّق في معانيها إلى حدودٍ بعيدة، بمنأى عن الأفكار المجرَّدة، والزعيق المجلجل،والصخب المفتعل، والرتابة المملَّة، والأدواء التي أصيبتْ بها بعض تجارب شعراء اليوم،وعصفتْ بها.
ولعلَّ أوّل ما استرعى انتباهي في تلك السياحة اللطيفة عنوان الديوان المُنتقى بعناية فائقة من قِبل الشاعر:(أسارير الوهم )
ولأنَّه بمثابة العتبة المتعارف عليها فنياً، إلى اكتشاف فضاءات النصوص الأخرى ومضامينها الكامنةفي نطاق أنظمتها الداخلية،وقفت عنده طويلاً.
طفقتُ عندئذٍ أحاول التماس العلاقة الفنية التي أشعَّ بها هذا التركيب غير المسبوق؛وصلته بفكر الشاعر، ورؤيته ونظرته الكونية إلى عالم الوجود والمتغيِّرات من حوله.
وماإن شرعت في قراءة نصوص الديوان ؛وإنعام النظر في هذه اللوحة وتلك،
وإذا بقصيدته السادسة ترتيباً في الديوان؛تحمل اسم الديوان نفسه؛وإذا بأربعة أبيات -من مطلعها- يتوشَّح بها غلاف الديوان الخارجي.
ورويداً رويداً بدأت تتجلَّى لي أبعاد الشاعر النفسية؛وطاقاتها الإيحائية،
في الصورالشعرية المكثفة،واقترانها بالأدوات الفنية الممتزجة بمعمار القصيدة ونسيجها العام .
هنالك عقدت العزم على التفرّغ لمعايشة تلك القصيدة ،وبات هاجس العودة إلى المعجمات العربية من الضرورة بمكان ، لاستخلاص بعض دلالات العنوان البرَّاق والأسرار الكامنة في تركيبه الدقيق هذا ؛فما كان إلا أن تفجَّرت دلالات المعاني وظلالها الوارفة ،لتسفر عما يلي:
-فيما يتعلق بمفردة: (أسارير )؛
ذكروا أنها جمع ومفردها (سِرَر)
والمراد بها :خطوط الجَبْهة والوَجْه، وملامحُ الوجه.
كقولهم : انبسطت أساريرُ وجهه،
* وبرقت أساريرُه
وقال بعضهم: الأَساريرُ الخدّان والوجنتان ومحاسن الوجه، وهي شآبيبُ الوجه أَيضاً وسُبُحاتُه.
وفي حديث علي، عليه السلام: كأَنَّ ماءَ الذهبِ يجري في صفحة خده، وروْنَقَ الجلالِ يَطَّردُ في أَسِرَّةِ جبينه.
ويلاحظ أنَّها جاءت على وزن
(أفاعيلُ) أحد أوزان صيغ (منتهى الجموع) الدالَّة عادةً على الكثرة،
ومعنى ذلك أنَّ (أسارير الوهم) بلغت مبلغ الكثرة ،مما حدا بالشاعر إلى اختيار تلك الصيغة التعبيريةوإيثارها عن سواها.
-وأما مايتعلَّق بمفردة:(الوهم) بفتح فسكون فهي : : ما يقع في الذِّهن من الخاطر.
يقول الجوهري:«وَهَمْتُ في الشيء، بالفتح، أَهِم وَهْماً ؛إذا ذهَبَ وَهْمُك إليه وأَنت تريد غيره،وتوَهَّمْتُ أي ظننت ، وأَوْهَمْتُ غيري إيهاماً، والتَّوْهِيمُ مثلُه»..
وأمَّا الإيهَامُ فِي النَّثْرِ أَوِ الشِّعْرِ عند علماء اللغة : «فهو أَنْ يَأْتِي الكَاتِبُ أوِ الشَّاعِرُ بِلَفْظٍ يُوهِمُ مَعْنىً لاَ يُرَادُ، وَإنَّمَا الْمُرَادُ مَعْنىً آخَرُ»
والوهم عند علماء النفس:
اعتقاد خاطئ يؤمن به المرء بقوّة بالرَّغم من عدم وجود أدلَّة عليه.
وهم يقررون في الوقت ذاته وعلى رأسهم فرويد «أن الحلم ترجمة للرغبات المكبوتة في عالم اللاشعور،ولكنها لاترسب إلا لتطفو في الحلم لتتحقق في شكل من الأشكال».
في ضوء تلك الدلالات التي أشعت بها الكلمتان:(أسارير ووهم)؛تبدَّى لي أنَّ هذا التركيب اللغوي الذي استحسنه الشاعر عنواناً، هو في واقع الأمر،
تركيب إضافي نصَّ عليه النحاة؛واصطلحوا على تسميته بإضافة النكرة إلى معرفة، حيث إن النكرة هنا هي كلمة(أسارير) وجاءت مضافةً إلى كلمة(الوهم) المعرَّفة بأل،فاكتسبتْ مشروعية التعريف من هذا التلازم.
ونظرة إلى التركيب نفسه من زاوية بلاغية؛تكشف لنا أنه أقرب إلى فن (الاستعارة المكنية)؛ حيث حذف الشاعر المشبه به وهو (الإنسان)، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهي لفظة:(أسارير)؛واستبقى المشبه وهو لفظة(الوهم)،على غرار(جناح الذل) الوارد في الآية القرآنية الكريمة.
وعن تلك الإضافة النابضة نتجت عدَّة إيحاءات فنية ؛لعلّ أبرزها وأكثرها وضوحاً، أنَّ (الوهم ) يتقمَّص صورة الغازي المتخفي بأقنعته القاتمة؛ ليقتحم عالم الشاعر، ويبسط نفوذه في محيطه الداخلي والخارجي.
وفي احتدامه الموَّار في وعي الشاعر، وفي مركز وجدانه، تتشكل ماهيَّته إلى أن يصبح مثالاً محسوساً ملموساً بارزاً لأعين الشاعر،سالكاً به مسلك الشعر المؤثث باللقطات المائجة .
وقصارى القول في هذا الشأن يملي عليَّ
أن أقول إنَّ سعي الشاعر ووكده الفني من ذلك التركيب، يتبلور في توظيفه الماهر (عنصر التشخيص) ،وغايته رسم ملامح هذا الكابوس الوهمي الذي استطاع مداهمته ومشاغلته والجنوح به إلى ميدان الصراع المساهم بطبيعة الحال في ميلاد هذه التجربة المتوهجة،وخروجها من رحم المعاناة إلى واقع الحياة.
وفي النص نفسه ستتجلَّى لنا ألوانٌ أخرى من التشخيصات المماثلة ذات الصلة بالتجربة الحيَّة وآفاقها الرحبة.
___________________
– (معاني القصيدة الزاهية)
في مرآة التأملات.
أرسلتُ من لغةِ الأحلام إنشادي
لكنَّه تاه في أوهامِ ميعادي!

وفي مدارك فكري ألفُ قارئةٍ
لكنها عجَزتْ عن فهم أبعادي!

أخطو بعزمٍ على إيقاع ملحمتي
فتحرق الآهُ إصداري وإيرادي!

ومن بزوغي على شطآنِ أشرعتي
تدثَّر الليلُ أحزاني وتردادي

أهيمُ في نشوة الساعي بخطو دمي
وأقطف الصفرَ في صفْحات تعدادي!

قالوا ترددها حَيرى وقد سئمتْ
فقلتُ حالُ الذي في ثوبِ مصطاد!

أحيا على ألمٍ في لامه ألمٌ
والميمُ في رسمه حرمانُ إمدادي!

وأرسل الفكرَ في أمواج حدَّته
زهواً فيسقطُ في أشراك حُسادي!

تفترُّ عن رحلتي ذكرى تكبلني
وتبعث الشجنَ العاثي بإعدادي!

ومضُ السراب شرابُ الواهمين وهل
يروي السرابُ شَغاف الواله الصادي؟

ترددتْ لغةُ المبحوح عبر فمي
وكنتُ أرسلها سهماً بإيقادي

أعلل الروحَ وحيُ الهمس يدفعها
موَّارةً دونها إبحارُ مرصادي

تهفو إلى الوصل يزكيها بهالتِه
وما إلى الوصل جسرٌ يوصلُ الشادي!

تنداحُ منها أساريرٌ تنوح على
ماضي الزمان تغنّى فيه ميلادي!

لاذتْ بذاكرة الإيحاء تسكبها
شجواً به انتفضتْ يجري بها الحادي!

أبحرتُ في عالم المجهول أسبره
وأوغلتْ رحلتي لكن بإبعادي!

-القراءة:
منذ اللحظة الأولى نرى الشاعر وقد أرسل (إنشاده) المنسوج من (لغة الأحلام) المستقرة في أعماقه،وفي مخيلته ؛ أودع لديه رسالةً نفسية معيَّنة
وضمَّنها نداءاته ورجاءاته وهمومه المتراكمة ؛إلاأنَّ رسوله هذا سرعان ما ابتلعته المتاهة القائمةله بالمرصاد،فاستعصى عليه عندئذٍ أن يعود إليه بشيء ذي بال ،مما حوته الرسالة المنوطة به؛نتيجة سقوطه في دائرة الأوهام الضاربة أطنابها هناك.
أثناء ذلك كان فكر الشاعر القلق ،يحتشد بقارئاتٍ بلغن الألف عدَّاً ،يحاولنَ اكتشاف أبعاد الشاعر وغاياته؛بيد أنَّ العجز كان حليفهن في تلك المغامرة القرائية..
في هذا الجو المتصاعدة حدَّة وتيرته؛شرع الشاعر في خطواته الواثقة المتحلية بالعزم المتين ،سائراً على إيقاع ملحمته البطولية لتنأى به عالياً عن تلك المواطن المستكرهة؛فإذا ببركان الآه المستعر؛يحول دون انطلاقته الجامحة، بل تعدَّى ذلك إلى أن أغلق عليه مجالَي (الإصدار والإيراد) ،معبَري الذهاب والإياب ،فاستبدّت به الحيرة إزاء هذا التصدِّي المرير، وأطبقت عليه سحائب الذهول،واعتراه ما اعتراه من فزعٍ واضطراب.
وعندما بزغ كوكبه الألاق وهو يمخر عباب البحر الهائج،التحم الليلُ به إلى درجة الامتزاج القاهر، حتى إنَّه قاسمه أحزانه وترداده أثناء تلك الرحلة الكأداء؛فأسفر عن ذلك التلاحم وتمخَّض عنه اضطرارالشاعر إلى الهيَمان في (نشوة الساعي، وخطاه الدامية)مجاراةً لتلك المماحكات أوتسامياً عليها ،على حد تعبير أبي العلاء المعرّي:
ولما أن تجهمني مرادي
مشيتُ مع الزمان كما أرادا.
وإذا ثمار ذلك المسعى الدؤوب، وحصيلة ذلك التّعداد الموجع،هي العودة صفر اليدين من ذلك التطواف والركض النضالي المؤجج.
ويذكرني ذلك السعي الذي يبدو إخفاقاً أو نزعةً دفاعية مطلقة،بقول الشاعر القديم:
أمَّا الفؤادُ فإنهم ذهبوا به
يوم النوى فبقيتُ صفر الأضلع.!
وإذ ذاك هطلتْ على الشاعر طوفان أسئلة ،من مصادر شتَّى،أبرزها من الملتفِّين حوله-كالمشفقين عليه خشيةَ اتساع أمد الحيرة، واستبدادها برحلته الوجودية؛وتطلعاته الحبيسة بين أسوار نفسه .
فجاء جوابه الدامغ تفنيداً ،لاحيلة (لمُصطادٍ) واقع في خضمِّ هذا الأتون الطافحة نيرانه، ولاسبيل إلى مجاوزته
أو الانفكاك من ويلاته المتزايدة .
ومن أجل إثبات ذلك لهم بالدليل القاطع ،أحالهم ومن إليهم إلى طبيعة حياته القائمة على (أملٍ )واهٍ ،وهو في حقيقته الصارخة (ألم) متعاظم، ماينفك عن حرمانه من الإمدادات المنتظرة،والإسعافات المرتجاة.
هم لايدركون حجم ذلك الألم الضَّاري.
بيد أنَّه وهو في خضمِّ حياته المصطبغة بألوان الألم، لم ينقطع عن إرسال الفكر المتِّزن، وهو في قمة صحوه وزهوه وائتلاقه؛فما يلبث أن يراه وقد سقط في الأشراك المحكمة التي صنعها الحساد للإيقاع به.
وعن ذلك الصراع المحتدم، انبعثتْ أخيلةُ الذكرى الغائرة في نفس الشاعر ؛لتمارس دور الهيمنة على مساحات تفكير الشاعر،وتقييده بقيودها العاتية .
على أنَّ تلك العقبات لم يكن لها أن تفتَّ في عضُد الشاعر، وليس في مستطاعها تجريده من عَتاده الذهني الذي يفتضّ به غموض الأشكال المستترة، ويمنحه القدرة على دحض (ومض السراب)، شراب المثخنين بالوهم ،أولئك الأدعياء المرتكسين في حمأة الذل والهوان.
وفي هذا المشهد العاصف تنبثق لنا عذاباتٌ أُخرى محاطةٌ بالمفارقات اللافتة؛على أنحاء شتَّى،كمثل:
-لغة المبحوح المترددة الآن؛ وهي في سابق العهد لم تكن تتورع
عن تسديد السهام المصمية.
-تعليل الروح بالهمسات الدافئة مطلب الشاعر ، يتضاءل عن النهوض بها مرصاده إذا رام الإبحار.
-الوصل الزاكي المنعَّم ،وهالاته الحالمة الدافئة ،تفتقد إلى الجسر الذي يضمن للأطراف المحبة سُبل التلاقي الغامر بالوداعة واللذة وحسن الجوار.
من ذلك الجو تنبثق (أساريرٌ) وهمية أُخرى، تعتمد وسائلها الدرامية فكرة النوح على ماضي الزمان المتصل بساعة الميلاد، وسنوات الصبا وما إلى ذلك ،من قبسات متجذرة في أعماق الشاعر.
هذه الأسارير وما إليها اتخذت من الذاكرة الموحية؛أنهاراً سيَّالة ،فهي تسكبها على هيأة شجون مضطرمة، وعلى الحادي أن يجري بها في المسافات الطويلة ومسالكها الخطرة.
وانتهى مطاف الشاعر واشتعالاته الوجدانية والفكرية ،
بالإبحار في عالم المجهول، محاولاً سبر أغواره العميقة؛وأسراره الماورائية،
في رحلته المستغرقة؛التي مالبثت أن صدمته بفكرة إبعاده عن غاياته العليا ومطامحه المنشودة،إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
_________________________
بعض ظواهر النص وفنيَّاته:
آن لي أن أقول بعد تطوافي هذا إنني كنت أمام تجربة شعرية عميقة بما تعنيه الكلمة، تجربة مترعة بالشجن المكثف، وتضافر النوازع النفسية المتكهربة ،أمام الوهم المتربص بحياة الشاعر؛وكيانه ومشاهداته ومواقفه ،
ففيها شهدنا انفعالات الشاعر الملتهبة، وفيها شهدنا صنوفاً من آلامه العاتية وانكساراته المتتابعة، ونزيف كلماته المستثارة من ذكراه:(ذات الشجن العاتي).
وفي التجربة ذاتها شهدنا اصطدامه بالوجوه الزائفة، والأقنعة المستعارة من (الواهمين) والحسّاد ومن هم على شاكلتهم ،إلى جانب إشعاعات نظرته المتماسكة في مواجهة الأخطار المحدقة ؛
والمتشبثة بخيوط الأمل أثناء إبحاره
في عالم المجهول؛بمايؤكد المقدرة النوعية (للغة أحلام الشاعر ) في النهوض بتلك التداعيات وظلالها المترامية،وإجادتها فن تصوير فداحة المعاناة ورصدها رصداً دقيقاً محكماً.
وفي السطور التالية إشارات خاطفة لبعض الأدوات الفنية المستخدمة
في النص:
-استخدام الشاعر الأفعال المضارعة المعبّرة عن ضمير المتكلم ،على نسق واحد كمثل:أُرسل، أخطو ،أهيم ،أحيا،أقطف الخ
والماضية مثل :(تاه،عجز،تدثر،تردد،حال) ،الخ
إلى جانب الأفعال المقترنة بتاء التأنيث،من مثل : عجزتْ،ترددتْ،لاذتْ،انتفضتْ،سئمتْ،
أوغلتْ.
كلُّ ذلك منح التجربة خصوبة عالية، وسيولةً في صياغة المعاني،وحضوراً لافتاً في ذهن المتلقي واستمالته بواسطة الدهشة غير المصطنعة ،كما إنها سلطت الضوء على عملية استثمار العنصر الزمني
في نواحيه الثلاث ،ماضيه وحاضره ومستقبله.
كما أنَّ هذه الأفعال المستخدمة بدراية عالية تمثل مظاهر الجو المحيط بميلاد التجربة.
-استثمار الشاعر فن الرمز بطريقة فنية لمَّاحة، ومزج ذلك بالصور الموحية ،كإسناد الوحي إلى الهمس ،وفي الإيماء إلى المرصاد المبحر ،وفي الصفر المقطوف،وغيرهم.
كذلك استثمر فن التشخيص على الوجه الأكمل ابتداءً من صورة الوهم التائه.
-معظم قوافي النص خُتمت بياء المتكلم ماعدا البيت السادس،العاشر،الثالث عشر،الخامس عشر،وذلك يشي بحرارة التجربة ، وانصهار معاني الشاعر في بوتقة وجدانه المكلوم.
-تنوع التراكيب الإضافية المستخدمة وتعددها في النص؛كمثل :«أوهام ميعادي؛لغة الأحلام؛أشراك حسادي؛حرمان إمدادي؛ثوب مصطاد،إبحار مرصادي،نشوة الساعي؛فهم إبعادي،شغاف الواله، وحي الهمس»،ومن شأن هذه التراكيب الخصبة وما إليها، أن تنقل القارئ إلى جو الشاعر نقلاً حياً،وتحمله في الوقت نفسه على مسايرته والتعاطف معه
في مقاومته موجات الظلام الحالك وتفاقمها حوله،فضلاً عن ثرائها اللغوي الواسع.
-تَرقْرقُ عنصر الموسيقى عبر الصياغة الشعرية الفريدة إيقاعياً في الجمل والتراكيب ،منح التجربة ألواناً سحرية من الجمال الأخاذ،وأساس ذلك قائم على اعتماد الشاعر بحر البسيط المعروف برصانته واستيعابه غزارة المعاني المنداحة في تفاصيل النص.
-المفارقة الشعورية والموضوعية
في تساؤله الإنكاري المشوب بالأسى؛في قوله:
وهل يروي السراب شغاف الواله الصادي؟!

تلك كانتْ إلمامة يسيرة ببعض جوانب هذا النص الجمالية، ومحاولة استقصاء طبيعة الإحساس الدامي الذي انطوت عليه هذه التجربة الشعورية النابضة، وما اتصل بها من دلالات وإيحاءات ثرية؛آملاً أن أكون قد وفقت في هذا الرصد ،على أنَّ هناك أسرار أُخرى يزدان بها النص…
وذلك جهد المقلّ،والله ولي التوفيق.

محمد سلطان الأمير

شاعر - معلم لغة عربية - مكة المكرمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى