عم بتضَوِّي الشمسْ ع الأرض المزروعَة
عم بتضَوِّي الشمسْ والدنيي عم تُوعى
قْمار القمح المِدرية .. غنَّية وشو غنَّية
ومْزَارع خَلفا مْزَارع خَلفا ينبوعةً. وعم بتضوي الشمس والدنيي عم توعي.
أنا من المغرمين بصوت فيروز، ويدور في خاطري تساؤل يُخالجه الإعجاب من جعل هذه المنظومة (فيروز والرحابنة) بهذا الجمال والتوهج. كيف ومتى ومن. أسئلة تحتاج إلى مقالات متعددة وربما كتب؛ ففيروز يخضع لها الحرف وتذوب الموسيقي رقة وخجلًا كلما صافحت حنجرتها الماسية. لا أدري وأنا أكتب هل أجعل هذا المقال عن بعض نواحي مسيرتها أم أجعل ذلك في مقال آخر. ليكون لدي استعداد أكبر لعلي أولي ذلك الجانب بعض حقه. صراحة بدأت هذا المقال بعنوان عم بتضوي الشمس مكرسًا للمحة مرت كما تشع الشمس ثم تتواري في حياتي، وما أكثر تلك المنحنيات في حياة طويلة لم تغب عنها الأحداث كثيرًا ببساطتها ومصاعبها بحلوها ومرها كم مر منها وتاه في غياهب النسيان، وكم خزنته الذاكرة. أحيانًا لا نعلم مساحة مشاعرنا ومكامنها إلا عندما يأتي طيف الذكري سواء يحركه حدث أو خيال أو عنوان من هنا وهناك كما حدث مع عم بتضوي الشمس…. كنت أعمل في معهد المرور في الرياض، وطُلِب مني أن أقوم بجولة في مناطق المملكة. لاختيار نخبة من الأفراد على اختلاف رتبهم لترشيحهم لدورة تنشيطية في معهد المرور. كنت في ذلك الوقت ملازمًا أولًا، وكانت أول وجهة لي هي أبها، ورحلتي من الرياض إلى الطائف ومن ثم طائرة أخرى إلى أبها. في ذلك الوقت كانت الرحلات محدودة. ومنظمة بشكل أو بآخر حسب كثافة المسافرين. صالة الركاب في مطار الطائف في ذلك الحين ربما لا تتجاوز ستين مترًا تمتلئ بالمسافرين وبالكاد يجد المسافر مكانًا يقف فيه ناهيك عن الجلوس، وكنت أرتدي بذلتي العسكرية، وكان هناك رجل ربما في العقد الخامس من عمره ومعه شاب قد يكون في 17 سنًا. قدما إليَّ وبادرني الرجل قائلًا: أنت ذاهب إلى أبها قلت أكيد. قال هل تعرف أين ستسكن (لم تكن هناك فنادق) فقلت لا. إنما سأذهب إلى مدير الشرطة وهو يسنعني. قال لا أحد سيسنعك. لكن أنا وولدي كل ما جئنا إلى أبها نسكن في بيت تحت رعاية أهله، وندفع لهم ما تيسر ولا يشترطون، وهم ناس فضلاء. فاسكن معنا. فقلت له. لكن هل ممكن أعرف من الذي يشرفني بدعوتي. قال أنا العقيد فلان (وأخرج بطاقته) وذاهب إلى أبها لاستكمال التحقيقات؛ فشكرته. ووافقت على العرض. وفعلًا قضينا عدة أيام جميلة وبهية لا تُنسى. كان المطر لا يتوقف إلا ساعات قليلة، وكان في الجو غيم دائم. ولكن ليس كغيم الشاعر المبدع فايق عبد الجليل؛ فذلك غيم حزين وغيمنا كان مبهجًا ينثر الفرح في قلوبنا فينعكس ذلك على وجوهنا بشرًا وسعادةً؛ وخاصة لمن كان المطر عزيزًا عليه في جدة أو الرياض. كان سعادة العقيد وياليتني حفظت اسمه رجل كريم الخلق جميل المنطق مُجيد للطبخ. فكنا يوميًا نذهب بعد ما الكل قد أدى عمله إلى المحالة ونجلس على ضفاف ذلك النهير اللطيف والماء يجري رقراقًا عذبًا، ومن شفافيته كنا نرى بعض الأسماك وهي تتراقص خلاله؛ وكأنها أطفال في محفل لعب ولهو لا بشغل بالهم إلا معانقة الفرح والمرح. تلك الخضرة التي كانت تغطي كل شبر في المحالة والسودة والقرعة وغيرهم والضباب وعالي السحاب والهتان وهذا وذاك المكان وبساطة الإنسان كلما أتذكرها الآن وغير الآن، وأنا بها ولهان والشمس تطل بخجل في كثير من الأحيان فتضيء وإن على قدر المكان والزمان فأردد عم بتضوي الشمس ع الأرض المزروعة-عم بتضوي الشمس والدنيي عم توعي. وأعود إلى ذلك الإنسان الذي أحاطني برعايته -جزاه الله خيرًا- وأتذكر حتى الآن طيب مذاق ما يطبخه مما لذ وطاب من الأرزار والإدامات وخاصة تفوقه في إعداد المسقعة. وذكرني هذا عندما كنت في أسبانيا ذات مرة وذهبنا في مجموعة سياحية، وكان قائد الرحلة لا يفتأ بعد كل شرح أن يقول إذا ذهبنا إلى المطعم الفلاني لا يفوتكم صحن (المساقا) ولا تطلبوا غيره. فهو طبق لذيذ جدًا. وسال لعابنا واشتقنا إلى تلك المساقا التي يبدو أنها روعة، وعندما أحضروها وجدناها هي المسقعة عندنا، ولكن لا نكهة ولا مزية وندمنا على طلبها. وتذكرت مسقعة العقيد وقلت في نفسي (إيش جاب لجاب) بعد تلك الرحلة أحببت عسير وعاصمتها البهية أبها، وتدور الأيام. وفي أوائل عام 1973، وكنت أعمل في مرور الرياض. ذهبت لمعالي لفريق هاشم عبد الرحمن الرجل كريم الخلق باهي الطلة البارز في عمله، وكان مديرًا للإدارة العامة للمرور، وطلبت منه أن يعفيني من العمل في مرور الرياض؛ لأني لم أجد نفسي فيه ولم أعطِ العمل الذي استحق فعرض عليَّ العمل في مرور عسير فقلت بأي صفة؛ فقال بالطبع مديرًا له. فوافقت. وكانت هذه رحلتي الثانية إلى أبها.
0