المُتأمل في مقاصد الشريعة وعللها وحكمها، يقف على علم غزير وفقه رشيد، يتجاوز النظرات السطحية إلى آفاق واسعة من التأمُّل العميق، وقد أجاد وأفاد الشيخ الإمام العلّامة المعروف بشاه ولي الله الدهلوي في كتابه الرائد (حجة الله البالغة) الذي بذل فيه جهدًا علميًّا مباركًا من خلال إبراز معالم أسرار الأحكام الشرعية وعللها وحكمها ومقاصدها؛ فليراجع مرةً بعد أخرى، ومن ذلك ما يتكرر كل عام عن حكم الأخذ من الشعر والأظافر لمن يريد أن يضحي، أخذ من الحديث الشهير فيما روته أم سلمة (رضي الله عنها) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)، والحديث رواه مسلم وغيره، ووفق النظر العلمي في انتزاع مسالك الاستدلال وتنزيلها على الأحكام، اختلف الفقهاء في حكم الأخذ من الشعر والأظفار في العشر الأُول من ذي الحجة، فذهب إلى التحريم الإمام ابن حزم (رحمه الله)، وهو مذهب الحنابلة (رحمهم الله)، ومال بعض الفقهاء مثل الإمام الشافعي (رحمه الله) إلى الكراهة، ومن الفقهاء من لا يرى بأسًا في ذلك وهم المالكية والحنفية (رحمهم الله)، والقاعدة الأصولية تقول: النهي إذا ورد يحمل على التحريم ما لم يكن له صارف يصرفه عن ظاهره، والذي يذهل عنه البعض أن هذا التشريع مرتبط بحكم منها: الترابط المنهجي بين الحاج وغير الحاج؛ حيث يجمعهم قاسم التشبه المعنوي والنفسي والزمني؛ حيث يبدأ الفريقان بالتكبير والتهليل من بداية شهر ذي الحجة، والمشاركة في العمل الصالح في هذه الأيام المباركة أخذًا واستنادًا من قوله -عليه الصلاة والسلام-: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني – أيام العشر – قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه ولم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري، مما يؤكد أن الترابط المنهجي بين الحاج وغير الحاج مقصود شرعًا؛ حيث نلحظ التوافق الزمني في التحلل بين الحاج وغير الحاج، فيُشرع للحاج بعد رمي جمرة أن يحلق أو يقصر، كما يشرع للمضحي غير الحاج أن يقصر شعره وتقليم أظافره بمجرد ذبحه لأضحيته، وللمحافظة على هذا الترابط الإيماني، كما نلحظ الترابط بين الحاج وغير الحاج في مشروعية الذكر المطلق وغير المطلق، وما يترتب على التحلل الكامل للحاج أيام منى الثلاثة، مقارنة لما يناله المضحي من المشاركة في أفراح العيد والأمر بكثرة الله، فهي أيام وليالٍ فاضلة مباركة لا تتكرر إلا في العام مرة واحدة، ولا يدري أحدنا متى يكون الرحيل من الدنيا الفانية إلى الدار الباقية، فعلى الذين يلتمسون الأعذار بجواز الأخذ من الشعر أو تقليم الأظافر أيام العشر إيثارًا للتزين على الشَعثِ والتبذلِ، أن يعمقوا النظر ويستطيبوا العبادة وملازمتها بليالي العشر الأيام ونهارها من ذي الحجة، وللإمام ابن تيمية (رحمه الله) توجيه حسن، واستنباط دقيق، وتخريج عميق يقول: (أيام عشر ذي الحجة أفضل من العشر من رمضان، والليالي العشر من رمضان أفضل من ليالي ذي الحجة)؛ فهذه الموازنة العلمية تُعد من أهم فرائد العلم وفوائده، من خلال التعرف على مراد الله ورسوله، وربط نظائر العلم بعضها ببعض، والتخلي عن النظرات العجلى التي يراد منها البحث عن التنصل من التكاليف الشرعية، ولو كانت عواقبها جليلة وعظيمة …
0