المقالات

حَجُّ الفِجَارِ.. جِدَارِيَّةٌ جاهِلِيَّةٌ

– 1 –

​قَرَأْتُ رِوايةَ حَجِّ الْفِجَارِ للفيلسوفِ والرِّوائيِّ المُوريتانيِّ موسَى وِلْد ابْنُو = مَرَّتَيْنِ، واستجْلَبَ نظري إليها أنَّها رِوايةٌ مَّوضوعُها الْحَجُّ، وطالَما دَفَعْتْنِي عِنايتي بأدبِ الْحَجِّ وثقافتِهِ إلى الاتِّصالِ بِكُلِّ ما لَهُ تَعَلُّقٌ بهذهِ الشَّعِيرةِ؛ أَقْرَأُهُ رِحلةً حِجَازِيَّةً، وأَظْهَرُ عَلَيْهِ في كُتُبِ الطُّرُقِ والمَنَاسِكِ، ويَلَذُّ لِي مِنْهُ ألوانٌ شَتَّى ذاتُ آصِرَةٍ بأدبِ التَّشْوِيقِ والتَّحْنِينِ إلى الدِّيارِ المُقَدَّسةِ، حتَّى إذا خُضْتُ في شأنٍ مِّنْ شُؤونِ الثَّقافةِ العالِمَةِ تَبَيَّنَ لِي أنَّ الْحَجَّ إلى البَيْتِ العتيقِ، وأنَّ الرِّحلةَ إليهِ، وأنَّ القافِلةَ، والطَّريقَ، والمَسَالِكَ = لَهُنَّ مِسَاسٌ بهذا اللَّوْنِ مِنَ الثَّقافةِ. أَلَمْ تَكُنْ كُتُبُ الرِّحلاتِ كُتُبَ دَرْسٍ وتَلَقٍّ وإجازةٍ ولِقَاءِ أساتِذَةٍ وأشياخٍ وتلامِذَةٍ، واستنساخِ كِتابٍ، ورِوايةٍ، وسَنَدٍ؟
​عَلَى أنَّ حَجَّ الفِجَارِ تمتازُ بأنَّ صاحِبَها الأستاذَ الْجامِعِيَّ المُتَفَلْسِفَ اختارَ للحديثِ عنِ الْحَجِّ نَوْعًا أدبيًّا حديثًا هُوَ الرِّوايةُ، وكانَ يستطيعُ، لَوْ أرادَ، أن يتخيَّرَ للحَجِّ إلى الدِّيارِ المُقَدَّسةِ أدبَ “الرِّحلةِ”، وعَهْدُ أسلافِهِ في بِلادِ شنقيطَ بِرَكْبِ الْحجيجِ والضَّرْبِ في الأرضِ جِدُّ قديمٍ، لَكِنَّهُ أرادَ أن يَكْتُبَ رِوايةً لَّا رِحْلَةً، وأن يَكُونَ رِوائيًّا لَّا رَحَّالةً، فلَمَّا نَدَبَ نَفْسَهُ إلى ما نَواهُ رَجَعَ، القَهْقَرَى، بعيدًا، فإذا بِهِ يَتَّخِذُ العَصْرَ الْجاهِلِيَّ المُتَأَخِّرَ بِيئةً لِّرِوايتِهِ، وإذا بِهِ يختارُ مِنْ ذلكَ العَصْرِ ما يُدْنِيهِ مِنَ الْحَجِّ – وكانَ العَرَبُ الْجاهِلِيُّونَ يَحُجُّونَ البَيْتَ العتيقَ بَقِيَّةً مِّنَ الحَنِيفِيَّةِ الَّتي تَحَدَّرَتْ إليهم مِّنْ أبيهِمْ نَبِيِّ اللهِ إبراهيمَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، – فكانَتْ حَرْبُ “الفِجَارِ” وما اتَّصَلَ بِها مِنْ غِشْيانٍ لِّـ “سُوقِ عُكاظٍ”، مَنَاطَ هِمَّتِهِ، ومَوْضِعَ فَنِّهِ الحديثِ، مَهْما كانَ موضوعُهُ قديمًا.
​إذنْ، أدارَ موسى وِلْد ابْنُو رِوايتَهُ عَلَى الْحَجِّ الْجاهِلِيِّ، عَشِيَّةَ ظُهُورِ الإسلامِ، وانتخَبَ مِنْ حوادِثِ الْجاهِلِيَّةِ ما عساهُ يُلائِمُ موضوعَهُ، وما إن نَّشْرَعُ في قِراءَةِ الرِّوايةِ حتَّى نَقِفَ عَلَى رُوحِ الْحَجِّ في الْجاهِلِيَّةِ المُتَأَخِّرةِ، وإذا هُوَ خَلِيطٌ مِّنْ حَنِيفِيَّةٍ تكادُ تَمَّحِي، ووَثَنِيَّةٍ هِيَ سِمَةٌ مِّنْ سِمَاتِ ذلكَ العَصْرِ، بَلْ إنَّنا واجِدُونَ في سُوقِ عُكاظٍ، قُبَيْلَ الدَّفْعِ إلى شعائِرِ الْحَجِّ ومَنَاسِكِهِ، تَوَاشُجَ الدِّينِ، والتِّجارةِ، والمُنافَرَةِ، والمُفَاخَرَةِ، ونَلْقَى الْجزيرةَ العَرَبِيَّةَ، بِتَمامِها، أَيْنَما جُلْنا فيهِ، وبِلادَ مِصْرَ، والشَّامِ، والعِرَاقِ، وفارِسَ، وأينما أَخَذَتْنا الرِّوايةُ فَثَمَّ سُوقٌ لِّكُلِّ أولئكَ؛ للشِّعْرِ، والخطابةِ، والوَعْظِ، والسَّجْعِ، وفيهِ الرَّفَثُ، والفُسُوقُ، والْجِدَالُ، والهَدْيُ، والْبُدْنُ، والدِّماءُ، والصَّلَوَاتُ، والسِّحْرُ، والكَهَانَةُ، والألوانُ، والرِّياشُ، وما شِئْنا الظُّهُورَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ العَرَبِ في جاهِلِيَّتِهِم، وحَسْبُنا أن يَكُونَ عُكَاظٌ سُوقًا يَحْتَفِلُ لِكُلِّ شيءٍ؛ ألا يَكْفِي أن يجتمِعَ فيهِ دُعاةُ العَدَاوَاتِ، والواعِظُونَ، والقُصَّاصُ، والكُهَّانُ، والأنبياءُ، والْقُسُسُ، والشُّعراءُ، يَمُرُّ بِنا كُلُّ أولئكَ؛ يَلْقانا، في ناحِيَةٍ مِّنْهُ، قُسُّ بنُ ساعِدَةَ الإيادِيُّ يَعِظُ مَنْ ألقَى إليهِ السَّمْعَ، فإذا طُفْنا، في ناحِيَةٍ أُخْرَى، أَلْفَيْنا محمَّدًا – صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى القبائِلِ… خصيصةٌ امتازَ بِها عُكاظٌ: السُّوقُ، والتِّجَارةُ، والاحتفالُ، والتَّعَفُّفُ، والعُهْرُ، والحنيفيَّةُ، والوَثَنِيَّةُ!
​كُلُّ ذلكَ وغَيْرُ ذلكَ تَنْطَوِي عَلَيْهِ رِوايةُ حَجِّ الفِجَارِ.
​لَكِنَّ الرِّوايةَ، عَلَى تَشَبُّعِها بِبِيئَةِ السُّوقِ والاحتفالِ، تختارُ مِنْ كُلِّ ذلكَ الضَّجيجِ شخصيَّاتٍ هِيَ مَنَاطُ تَلْوِينِها، ومَكْمَنُ ما فيها مِنْ فَنٍّ، أَبْرَزُها الشَّاعِرُ لَبِيدُ بْنُ ربيعةَ، والبَغِيُّ مَهْدَدُ، وهاذِرُ شيطانُ النَّابِغةِ، وأسماءُ العَدَوِيَّةُ، غَيْرَ تِلْكَ الأسماءِ الَّتي تَعْرِضُ لها الرِّوايةُ، حِينًا بَعْدَ حِينٍ، كُلَّما ذَرَعَتْ بِنا هذهِ النَّاحِيَةَ أوْ تِلْكَ مِنَ السُّوقِ، أمَّا الْحوادِثُ فلا سبيلَ إلى إحصائِها وحَصْرِها، مِنْها ما كانَ مُصَاقِبًا لِّلسُّوقِ، ومِنْها ما غارَ في غَيَاهِبِ التَّاريخِ، ومِنْها ما ضارَعَ الأُسْطُورةَ والْخُرَافَةَ، ويَلُوحُ فيها كُلِّها، مَهْمَا تَشَعَّبَتْ، شُعُورٌ بالتَّشَرْذُمِ، ورَغْبَةٌ في الاجتماعِ، لَوْلا الحُرُوبُ الَّتي تحتالُ العَرَبُ، بِمَا أُوْتِيَتْهُ مِنْ حِيَلٍ، في إطفاءِ نائِرَتِها، وما تُؤَرِّثُهُ مِنْ عَدَاواتٍ. أَلَيْسَتْ “حَرْبُ الفِجَارِ” – وللرِّوايةِ نَسَبٌ فيها – تَصْوِيرًا لِّذلكَ الفُجُورِ الَّذي دَفَعَ ضَرِيبًا مِّنَ العَرَبِ إلى الاستهانةِ بالدِّينِ وشَعَائِرِهِ والأَشْهُرِ الْحُرُمِ؟ أَوَلَيْسَتْ قُرَيْشٌ القبيلةُ التَّاجِرَةُ الأَحْمَسِيَّةُ، كأنَّما أَجَمَتِ الحَرْبَ والشِّقَاقَ، وأَدَّاها عَقْلُها التَّاجِرُ إلى أنْ تَخْتَصَّ بِكَعْبَتِها، ووادِيها غَيْرِ ذِي الزَّرْعِ، وتِجَارَتِها = وإلى أنْ تَصْطَنِعَ “الإيلافَ”، حتَّى إذا أَحَسَّ سادَتُها وكُبَرَاؤها بتفاوُتٍ بَيْنَ الغَنِيِّ والفقيرِ، هَبَّتْ جَمَاعةٌ مِّنْهُمُ فتَعَاهَدُوا وتَحَالَفُوا عَلَى أن لَّا يُظْلَمَ في قَرْيَتِهِمْ أَحَدٌ إلَّا رَدُّوا ظُلَامَتَهُ، ويُخَيَّلُ إلَيَّ مَشْهَدُ عَرْضِ النَّبِيِّ – صلَّى الله عليه وسَلَّمَ – نَفْسَهُ عَلَى القبائِلِ، وتَسَامُعُ أَهْلِ السُّوقِ بِدَعْوَتِهِ = ثُمَّ مَشْهَدُ اجتماعِهِ – عَلَيْهِ السَّلامُ – بِنُقَباءِ الأَوْسِ والخَزْرَجِ، وبَيْعَةُ العَقَبَةِ، عَلَى نَدْرَةِ تِلْكَ المَشَاهِدِ = يُخَيَّلُ إِلَيَّ أنَّ تِلْكَ المَشَاهِدَ، عَلَى نَدْرَتِها، تُظْهِرُنا عَلَى مَبْلَغَ ما انتهَى إليهِ العَرَبُ مِنْ تَرَدٍّ في كُلِّ أنحاءِ حياتِهِمْ، وأنَّهُ آنَ لَهُمْ أن يَسْتَبْدِلُوا بهذهِ الحياةِ المُتَرَدِّيَةِ حياةً كريمةً أُخْرَى، لَمْ تُصَوِّرْها الرِّوايةُ، لَكِنَّها، لا شَكَّ، تُسْلِمُنا إليها.

– 2 –

​عَلَى أنَّني سأُصَوِّرُ لَكَ كَيْفَ تَلّقَّيْتُ حَجَّ الْفِجَارِ؟
​وقدْ ينبغي أنْ أقولَ: إنَّني قَرَأْتُها مَرَّتَيْنِ في زَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وإنْ كانَ يَكْفِيكَ مِنِّي القَوْلُ: إنَّني ارْتَحْتُ إليها، وشاقَنِي ما فيها مِنْ دَأْبٍ عَلَى تَصْويرِ حَجِّ الْجاهِلِيِّينَ أَدَبًا، وقدْ عَرَفْتُهُ أخبارًا طِوَالًا في دَوَاوِينِ التَّاريخِ، وكُتُبِ الأخبارِ والنَّوَادِرِ = فلَكَ ذلكَ!
​لَكِنَّني سأقولُ، كذلكَ: إنَّ حَجَّ الفِجَارِ لَيْسَتْ بالعَمَلِ الأدبيِّ الَّذي يَسْتَقِيدُ لقارِئِهِ، دُونَ أن يَشُقَّ عَلَيْهِ ويَصْعُبَ! إنَّها رِوايةٌ يَسِيرَةٌ وشاقَّةٌ! ويَكْفِيها، يُسْرًا، أنْ نَصُكَّ وَجْهَها بِعِبَارَةِ “رِوايةٍ تاريخيَّةٍ”، فنُرِيحَ ونَسْتَرِيحَ!
​نَعَمْ، هِيَ رِوايَةٌ تاريخيَّةٌ، كَمَا تُقَرِّرُ قواعِدُ النَّقْدِ الأدبيِّ الحديثِ، متى أَرَدْنا الفَحْصَ عَنْها أَعَدْناها إلى حوادِثَ وأخبارٍ لَّهَا تَعَلُّقٌ بالْحَجِّ إلى البَيْتِ العتيقِ، ومِسَاسٌ بِسُوقِ عُكاظٍ، وبِثَارَاتِ العَرَبِ وعَدَاوَاتِهِمْ، ولَها اتِّصالٌ بالشِّعْرِ والأدبِ والنَّوَادِرِ والأخبارِ الَّتي هِي لُحْمَةُ الرِّوايةِ وسَدَاها.
​وحَجُّ الفِجَارِ شاقَّةٌ لَّأنَّ قارِئَها مطلوبٌ مِّنْهُ أن يَتَهَدَّى إلى رُمُوزِها وعَلَاماتِها حتَّى يُسِيغَها. نَعَمْ، هِيَ اصطَنَعَتْ هذا النَّوْعَ الحديثَ الَّذي نَدْعُوهُ “رِوايةً”، والَّذي عَلَيْنا أن نَّقْرَأَهُ كما نَقْرأُ أَخَوَاتٍ لَّهَا يَعْتَزِينَ إليهِ؛ فللرِّوايةِ موضوعٌ، ولَها زَمَنٌ، وشخصيَّاتٌ، وحَوَادِثُ، ولَها مَكانٌ، لَكِنَّنا لَن يَسْتَقِيمَ لنا فَهْمٌ دُونَ أن نَّهْتَدِيَ إلى كُلِّ ذلكَ، وعسانا لَوْ شَرَعْنا في قِراءَتِها، مُبَرَّئِينَ مِن نَّبَأِ الْحَجِّ في الْجاهِلِيَّةِ، وعَرِيِّينَ مِنَ المَعْرِفَةَ، نَبْتَغِي مِنْ حَجِّ الفِجَارِ ما في الرِّوايةِ مِن لَّذَّةٍ ومَتَاعٍ = فأَقْرَبُ الظَّنِّ أنَّنا سنَخْبِطُ فيها خَبْطَ عَشْوَاءَ، لا نكادُ نَهْتَدِي فيها إلى حادِثةٍ، ولا يكادُ يَلِينُ لنا اسْمٌ، ومَصِيرُنا، لا شَكَّ في ذلكَ، إلى الضَّلالِ والتِّيهِ!

– 3 –

​وحَجُّ الفِجَارِ شاقَّةٌ، كذلكَ، لأمرٍ آخَرَ! هُوَ هذهِ اللُّغَةُ الَّتي كأنَّما خاطَبَ بِها موسَى وِلْد ابْنُو جُمْهُورًا مِّنْ عَرَبِ الْجاهِلِيَّةِ! لَكِنَّ الكاتِبَ الفيلسوفَ كَتَبَ رِوايَتَهُ في القَرْنِ الخامِسَ عَشَرَ للهِجْرَةِ (الْحادِي والعِشْرينَ للميلادِ!)، ويا بُعْدَ ما بَيْنَ زمانِنا وزمانِ الْجاهِلِيِّينَ، ولقدْ أَحْسَنَ الكاتِبُ ما شاءَ لَهُ الإحسانُ، فإذا التُمْسَ لَهُ العُذْرُ، وأَنْشَأْنا نُفَتِّشُ عنْ قُرَّاءٍ مِّنْ عَصْرِنا الْحاضِرِ، فأَغْلَبُ الظَّنِّ أنَّنا سنَظْفَرُ بِهِمْ، وإنْ كانَ قليلًا عَدِيدُهُمْ، سنَظْفَرُ بِهِمْ في أولئكَ الَّذينَ اتَّصَلُوا بالأدبِ القديمِ اتِّصالًا مَّتِينًا؛ عَرَفُوهُ في مَضَايِقِهِ، وأَدْمَنُوا الظُّهُورَ عَلِيْهِ في دواوينِ الْجاهِلِيِّينَ والإسلامِيِّينَ ومَنْ تَلاهُمْ، ولَذَّ لَهُمْ أن يَقِفُوا عَلَى تاريخِ العَرَبِ الأَوَّلِينَ في كُتُبِ الأَمالِي والنَّوَادِرِ، والتَّاريخِ، والأخبارِ، وأيَّامِ العَرَبِ… وأَحْسَبُ أنَّ أولئكَ – وأولئكَ وَحْدَهُمْ – هُمُ القادِرُونَ عَلَى إساغةِ تِلْكَ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ العَرْباءِ، الَّتي اصطنَعَها أديبٌ وفيلسوفٌ مِّنْ بِلادِ شنقيط!
​إذنْ أرادَتْ حَجُّ الْفِجَارِ أنْ تَكُونَ شِرْكَةً مَّا بَيْنَ الكاتِبِ والقارِئِ – والأدبُ، شِئْنا أَمْ أَبَيْنا، شِرْكَةٌ مَّا بَيْنَهُما – أنْ يُنْشِئَ الرِّوائِيُّ عَمَلَهُ وأن يقرَأَهُ قارِئُهُ ويُفَسِّرَهُ، وإن لَّمْ يَفْعَلْ ذلكَ استبَهَمَتِ الرِّوايةُ واستغلَقَتْ، فإذا تَيَسَّرَ لها هذا الفَرِيقُ مِنَ القُرَّاءِ صارَتْ سَهْلَةً طَيِّعَةً يَسِيرَةً، وصَحَّ الْحُكْمُ عَلَيْها، ما دامَ الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعًا مِّنْ تَصَوُّرِهِ.
​ولا أَزالُ عِنْدَ رَأْيي الَّذي عالَنْتُ بِهِ القارِئَ، أَوَّلَ هذا الفَصْلِ، وعِنْدِي أنَّ حَجَّ الفِجَارِ أَحْسَنَ كاتِبُها تَخَيُّرَ موضُوعِها، فإذا هُوَ أدبٌ كأَحْسَنِ ما يُكْتَبُ الأدبُ، وأنا لا أَنْفِي عن مَّوْضُوعِ الرِّوايةِ الْجِدَّةَ والطَّرافةَ، وأَحْسَبُهُ موضُوعًا طَرِيفًا ذَكِيًّا، وسأصطَنِعُ كَلِمَ أسلافِنا، وأقولُ: عَلَى أنَّ إحسانَ موسَى وِلْد ابْنُو لَيْسَ في المَعانِي؛ فـ “المَعانِي مَطْرُوحةٌ في الطَّريقِ”، وسأَزِيدُ الأمرَ بَيَانًا، وأقولُ: رُبَّما أَحَسَّ قارِئُ الأدبِ القديمِ – وأنا مِنْ هؤلاءِ القُرَّاءِ! – أنَّهُ لا جديدَ في موضوعِ حَجِّ الْجاهِلِيِّينَ يُبَايِنُ ما انْطَوَتْ عَلَيْهِ مَصَادِرُ التَّاريخِ، والأدبِ، والأخبارِ، والنَّوَادِرِ، ولا ما تَنَاثَرَ في مُصَنَّفاتِ التَّفسيرِ والْحديثِ والفِقْهِ، وعسانا نَلْقَى فِيهِنَّ ما لَمْ نَجِدْهُ في حَجِّ الفِجَارِ!
​لَكِنَّ موسَى وِلْد ابْنُو أرادَ أن يُنْشِئَ أَدَبًا لَّا أن يُصَنِّفَ كِتابًا في التَّاريخِ، أوِ التَّفْسِيرِ، أوِ الْحديثِ، أوِ الفِقْهِ. فما أَثَرُ الفَنِّ فيما أَنْشَأَ؟
​سأَقُولُ ما يُمْلِيهِ عَلَيْنا نَقْدُ الرِّوايةِ مِنْ كَلِمٍ مُّعَدٍّ مَّسْكُوكٍ: إنَّ حَجَّ الفِجَارِ تَحَوَّلَتْ بِشَعيرَةِ الْحَجِّ مِنَ العامِّ إلى الْخاصِّ، وإنَّها تَخَيَّرَتْ مِنْ كُلِّ ذلكَ زَمانًا، ومَكَانًا، وحوادِثَ، وشخصِيَّاتٍ، وأَجْرَتْ عَلَى ألْسِنَةِ هذهِ الأخيرةِ كلامًا مُّتَخَيَّلًا، هُوَ مِنْ بِئْرِ الرِّوايَةِ لا التَّاريخِ ولا ما سِوَاهُ، وإنَّ الغايَةَ الَّتي رَمَى إليها موسَى وِلْد ابْنُو أن يُنْشِئَ أَدَبًا مُّتَخَيَّلًا لا كِتابًا… إلى آخِرِ ما تُقَرِّرُهُ قَوَاعِدُ النَّقْدِ الأدبيِّ مِنْ كلامٍ مُّعَادٍ مَّكْرُورٍ!
​كُلُّ ذلكَ حَقٌّ لَّا رَيْبَ فيهِ، لَكِنَّ إحسانَ موسَى وِلْد ابْنُو نَلْقاهُ في وَجْهٍ آخَرَ مِنْ وُجُوهِ الكِتابةِ، هُوَ ما يَعْنِيني في هذا المَقَامِ.

– 4 –

​أَدَّانِي تَأَمُّلُ حَجِّ الفِجَارِ إلى أنَّها لَكالْقِمَاشِ؛ لُحْمَتُهُ وسَدَاهُ أَنْوَالٌ شَتَّى هِيَ قِوَامُ الرِّوايةِ، ولَسْتُ أَعْنِي بذلكَ ما يُعْرَفُ في النَّقْدِ الأدبيِّ بِـ “التَّنَاصِّ” – عَلَى تَشَعُّبِ مَسَالِكِهِ – فذلكَ شيْءٌ لَّا جديدَ فيهِ، وبِضَاعَةٌ مُّزْجَاةٌ وإنْ خَلَبَتْ، وهَلْ خَلَا كلامٌ – والأدبُ كلامٌ! – مِن نُّصُوصٍ غارَتْ فيهِ واستقرَّتْ، مَهْما اختلفَتِ الأزمِنةُ؟ وعَلَيْنا أن لَّا نَنْسَى أنَّ قواعِدَ النَّقْدِ الأدبيِّ تَرْفَعُ حَجَّ الفِجَارِ إلى شَجَرَةِ “الرِّوايةِ التَّاريخيَّةِ”، وهَل لِّهذا اللَّوْنِ مِنَ الرِّوايةِ قِوَامٌ بِما سِوَى “التَّناصِّ”؟!
​وسأَقُولُ: إنَّ فَنَّ موسَى وِلْد ابْنُو لَيْسَ في أنَّهُ أَنْشَأَ عَمَلًا “مُّتَخَيَّلًا”، فمِقْدارُ الخَيَالِ في رِوايَتِهِ يَسِيرٌ! إنَّ فَنَّهُ يَكْمُنُ في قُدْرَتِهِ عَلَى صِناعَةِ عَمَلٍ “مُّهَجَّنٍ” – ورُبَّما جازَ أن نَّدْعُوهُ “مُلَفَّقًا” – مُؤَلَّفٍ مِّن أَمْشَاجٍ مِّنَ النُّصُوصِ، نَسَجَ مِنْهُنَّ “قِمَاشَ” عَمَلِهِ الَّذي هُوَ شاقٌّ عَسِرٌ مَّا لَمْ نَمْتَلِكْ مَفاتِيحَهُ، وهُوَ سَهْلٌ سائِغٌ يَسِيرٌ بِها، لَكِنَّ القارِئَ الَّذي لا يزالُ يَحْمِلُ مِفتاحَ تِلْكَ النُّصُوصَ عَسَاهُ يَرُدُّ فَنَّ موسَى وِلْد ابْنُو إلى تَكَلُّفِهِ بِناءَ رِوايَتِهِ مِنْ تِلْكَ الأَنْوَالِ ما دُمْنا دَعَوْناها “قِمَاشًا”، ورُبَّما لاءَمَتْ كَلِمةُ “بِنَاءٍ”، ولَها بِنَوْعِ الرِّوايةِ تَعَلُّقٌ، أن نُّشَبِّهَ العَمَلَ بِـ “الْجِدارِ”، ولْيَكُنْ “جِدارًا جاهِلِيًّا”، والرِّوائِيَّ بعالِمِ آثارٍ مُهِمَّتُهُ بِنَاءُ ذلكَ الْجِدَارِ وتَرْمِيمُهُ، وأَدَّاهُ التَّفَرُّغُ لَهُ أن يُتِمَّهُ، فأنشأَهُ، وهُنا مَوْضِعُ الفَنِّ والمَزِيَّةِ، بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِن نُّصُوصِ الْجاهِلِيِّينَ، واستحالَ الرِّوائيُّ عالِمَ آثارٍ أَدَّاهُ تنقِيبُهُ إلى جِدارٍ جاهِلِيٍّ، فعَمِلَ، جَهْدَهُ، عَلَى أن يُعِيدَهُ سِيرَتَهُ الأُولَى، لَوْلا أَثَرُ الزَّمانِ، فهَدَاهُ خَيَالُهُ المُبْدِعُ إلى أن يَمْسَحَ الغُبَارَ عَمَّا هُوَ كائِنٌ، وإلى أن يُتِمَّ ما نَقَصَ بأدواتٍ مِّنَ البيئةِ نَفْسِها، فمادَّةُ الْجِدارِ، مُتَفَرِّقَةً، هِيَ مِنْ صُنْعِ البيئةِ والتَّاريخِ، لَكِنَّها، مُجْتَمِعَةً، هِيَ مِنْ صُنْعِ عالِمِ الآثارِ، وثَمَرَةُ بَحْثِهِ وتنقيبِهِ الَّذي شَبَّهْنا موسَى وِلْد ابْنُو بِهِ!

– 5 –

​ولَيْسَ صَعْبًا أنْ أَرُدَّ “الْجِدارَ الْجاهِلِيَّ” الَّذي صَنَعَهُ موسَى وِلْد ابْنُو إلى مَوَاضِعِهِ، ولا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ في ذلكَ؛ فالنُّصُوصُ الَّتي تَأَلَّفَتْ مِنْها الرِّوايةُ هَمُّها أنْ تَجْلُوَ البِيئَةَ وتُوْضِحَها، مَهْما انْتُزِعَتْ مِنْ سِياقٍ مُّخَالِفٍ لِّرِوايةٍ مَّوضُوعُها الْحَجُّ؛ فالمُهِمُّ أنَّ الأَنْوَالَ – أو الحَصَيَاتِ! – هِيَ مِنْ صَمِيمِ البِيئَةِ الْجاهِلِيَّةِ، والْحَقُّ أنَّ الكاتِبَ بَلَغَ مَرْتَبَةَ الإتقانِ في صَنْعَةِ الرِّوايةِ، وعَلَى أنَّ موضوعَها مُجْتَلَبٌ مِنْ تاريخِ الْحَجِّ في الْجاهِلِيَّةِ، فالعَمَلُ عَمَلُهُ والرِّوايَةُ رِوايتُهُ، وعَلَى أنَّني لا أَنْفِي مِقْدَارَ ما فيها مِنْ تَخييلٍ، هُوَ مَعْدِنُ الأدبِ ورُوحُهُ، فإنَّ مَهَارَةَ موسَى وِلْد ابْنُو إنَّما هِيَ في الصَّنْعَةِ؛ لا لِأَنَّ الموضوعَ جاهِلِيٌّ بَحْتٌ، ولَكِن لِّاستقادةِ التَّوَارِيخِ والأخبارِ والنَّوَادِرِ والآثارِ لَهُ، وكأنَّما حَجُّ الفِجَارِ الَّتي شّبَّهْتُها بِـ “الْجِدَارِ”، إنَّما هِيَ قِطْعَةُ فُسَيْفِسَاءَ، وبِمُصْطَلَحِ المَغَارِبَةِ قِطْعَةُ زَلِيجٍ = ضارَعَ الرِّوائِيُّ، في صَنْعَتِهِ وحِرْفَتِهِ، “عالِمَ الآثارِ”، لَكِنَّكَ لَنْ تَعْرِفَ رَوْعَةَ الْجِدَارِ، ولا سِرَّ الصَّنْعَةِ، ما لَمْ تَمْلِكْ مِفْتاحَ الرِّوايةِ، وإلَّا لَكانَ قُصَارَى ما تَصِفُ موسَى وِلْد ابْنُو بِقُدْرَتِهِ عَلَى مُحاكاةِ الْجاهِلِيِّينَ في ألفاظِهِمْ وأساليبِهِمْ وأَخْيِلَتِهِمْ!
​لَكِن مَّهْلًا!
​فأنا لا أَدْفَعُ عن مُّوسَى وِلْد ابْنُو بُلُوغَهُ مَرْتَبَةَ العالِمِ بتاريخِ الْجاهِلِيِّينَ وتُرَاثِهِمْ، لَكِنَّني سأَرُدُّ إبداعَهُ وإتقانَهُ إلى الصَّنْعَةِ لا الْخَيَالِ.
​أرادَ الكاتِبُ أن يُصَوِّرَ حَجَّ الْجاهِلِيِّينَ فماذا صَنَعَ؟
​تَفَسَّحَ لَهُ كُلُّ ما مَضَى مِنْ تُرَاثٍ يَخُصُّ أولئكَ القَوْمَ، فلَمَّا ارْتَسَمَ في مُخَيِّلَتِهِ كانَ عَلَيْهِ أن يَصُوغَ رِوايتَهُ لِتُشَاكِلَ حياةَ القَوْمِ وألفاظَهُمْ وأَخْيِلَتَهُمْ. والْحَقُّ أنَّ شيئًا مِّنْ ذلكَ كبيرًا تُظْهِرُهُ حَجُّ الفِجَارِ، وعَسَاكَ تَتَّهِمُ الكاتِبَ بِغَرَابَةِ ألفاظِهِ، وحُزُونَةِ أساليبِهِ، ومُشَاكَلَةِ تراكيبِهِ لِتراكيبِ الْجاهِلِيِّينَ! فإذا تَيَسَّرَ لَكَ أنْ تُكُونَ عَلَى ذُكْرٍ مِّنْ ثقافتِهِم، وإذا اتَّصَلْتَ بذلكَ العَصْرِ وما تَلَاهُ اتِّصالًا حَسَنًا = استبانَ لكَ أمرٌ ذُو بالٍ تَقِيسُ بِهِ فَلَاحَ موسَى وِلْد ابْنُو، واستيقَنْتَ أنَّ الرِّوايةَ، هذا العَمَلَ الْمُحْكَمَ السَّدِيدَ الأَسْرِ، إنَّما هُوَ نَصٌّ مَّصْنُوعٌ لَّا مُتَخَيَّلٌ، وأنَّ غَرَابَةَ الألفاظِ، وحُزُونَةَ الأساليبِ، ومُشاكَلَةَ تراكيبِ الْجاهِلِيِّينَ = مَرَدُّها أنَّ الكاتِبَ اجْتَلَبَ نُصُوصَ الْجاهِلِيِّينَ، كَمَا هِيَ، كَلِمَةً كَلِمَةً وحَرْفًا حَرْفًا لِّتُلائِمَ رِوايَةً أرادَها خالِصَةً لِـ “حَجِّ الفِجَارِ”، وكانَ “التَّلْفِيقُ” بَيْنَ النُّصُوصِ الْجاهِلِيَّةِ سَبِيلَهُ إلى صَنْعَةِ الرِّوايةِ، وأَشْبَهَ عَمَلُهُ عَمَلَ المُنَقِّبِ الماهِرِ. ولا يَذْهَبَنَّ بِكَ الظَّنُّ فتَتَّهِمَ كَلِمَةَ “تَلْفِيقٍ”، بغَيْرِ ما أُرِيدُهُ! فـ “التَّلْفِيقُ”، ولَهُ بالكتابةِ تَعَلُّقٌ وسَبَبٌ، أَصْلُهُ “لَفَقَ الثَّوْبَ يَلْفِقُهُ لَفْقًا: ضَمَّ إحدَى الشَّقَّتَيْنِ إلى الأُخْرَى وخاطَهُما”! [المُعْجَمُ الوسيطُ: لفق]
​ولا شَكَّ أنَّ موسَى وِلْد ابْنُو كانَ رِوائيًّا فَنَّانًا، ومُنَقِّبَ آثارٍ وعادِيَّاتٍ مَّاهِرًا! وحَسْبُهُ أنَّهُ أَخْفَى صَنْعَتُهُ، حتَّى لَيَتَوَهَّمُ القارِئُ أنَّ لُغَةَ الْجاهِلِيِّينَ إنَّما هِيَ لُغَتُهُ، عَلَى تَنَافُرِ ما بَيْنَ النُّصُوصِ متَى رَدَدْناها إلى دَوَاعِيها ومُنَاسَبَاتِها، فإذا أولادُ الْعَلَّاتِ كأنَّهُمْ إِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ، يَسْتَجْلِبُ خَرَزَةً مِّنْ هُنا، وخَرَزَةً مِّنْ هُناكَ، ويَشْتَدُّ في البَحْثِ والتَّنقيبِ، حتَّى إذا نَظَمَهُّنَّ كُلَّهُنَّ في سِلْكٍ واحِدٍ إذا بِهِنَّ جميعِهِنَّ يُصَوِّرْنَ جَمَالَ ذلكَ النِّظَامِ البديعِ!
​هذا ما فَعَلَهُ موسَى وِلْد ابْنُو!
​اجْتَلَبَ النُّصُوصَ مِن مَّصَادِرِها، كَمَا هِيَ، وطَوَّعَهُنَّ، وأشادَ مِنْهُنَّ حَجَّ الفِجَارِ، وإنَّكَ لَتَعْرِفُ، متَى امتلكْتَ مَفَاتِيحَ ذلكَ العَصْرِ، أنَّكَ قَرَأْتَ، مِنْ قَبْلُ، هذا النَّصَ الَّذي فُسِحَتْ لَهُ صفحتانِ أوْ ثلاثٌ في هذا الكِتابِ أوْ ذاكَ! أَجَلْ لَّقَدْ مَرَّ بِكَ هذا الكلامُ، بِفَصِّهِ ونَصِّهِ، في الأغاني لأبي الفَرَجِ الأصبهانيِّ، وهذا الْخَبَرُ قَرَأْتَهُ، دُونَ بَتْرٍ، في تاريخِ مَكَّةَ للأزرقِيِّ، وخَبَرٌ ثانٍ وثالِثٌ ورَابِعٌ وخامِسَ عَشَرَ في تاريخِ الطَّبريِّ، والعِقْدِ الفريدِ، وصحيحِ البُخَارِيِّ، والعُمْدَةِ لابْنِ رَشِيقٍ القَيْرَوانِيِّ! والْحَقُّ أنَّ موسَى وِلْد ابْنُو ماهِرٌ إذْ أَخْفَى صَنْعَتَهُ، وإن لَّبَّسَ عَلَى بَعْضِ قُرَّائِهِ فضَلَّ الطَّرِيقَ إلى الرِّوايةِ، وعَسَاهُ لَمْ يُسِغْها ذَوْقُهُ! وأَخْفَى ما في الرِّوايةِ تِلْكَ الفِقراتُ القِصَارُ الَّتي تَؤُولُ كُلُّهُنَّ إلى مَصَادِرَ مُختلفاتٍ؛ فسَطْرٌ مِّنْ خَبَرٍ مِّنْ “أيَّامِ العَرَبِ”، ونِصْفُ سَطْرٍ مُّجْتَلَبٍ مِّنْ كِتابٍ في السِّيَرِ والمَغَازِي، فإذا صَوَّرَ سُوقَ عُكاظٍ، بِصَخَبِهِ وضَجِيجِهِ، عَسَاكَ تَهتدِي إلى أنَّ هذهِ الكَلِمَةَ مَحَلُّها هذا الْخَبَرُ، وتِلْكَ أَصْلُها سَجْعُ كاهِنَةٍ استرفَدَهُ مِنْ كِتابِ الأصنامِ، أمَّا كلامُهُ في النَّقْدِ، ذلكَ الَّذي أَدَارَهُ عَلَى شِعْرِ لَبِيدٍ، فلنْ يُعْيِيَكَ اجتهادُكَ فتَرُدَّهُ جَمِيعَهُ إلى كلامٍ طالما مَرَّ بِكَ في دواوينِ النَّقْدِ عِنْدَ العَرَبِ وأخبارِهِمْ وأسمارِهِمْ، ولَيْسَ مُهِمًّا أن تَصِلَهُ بِلَبِيدٍ وَحْدَهُ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الشُّعراءِ، وحَسْبُهُ أن يُصَوِّرَ البِيئَةَ الَّتي اجتهَدَ صاحِبُ حَجِّ الفِجَارِ في استحيائِها!
​وإِلَيْكَ شيئًا مِّنْ ذلكَ:
​يُلْقِي لَبِيد بْنُ رَبِيعَةَ، في مَجْلِسِ قُرَيْشٍ، مِيمِيَّتَهُ الَّتي ستُعْرَفُ، بَعْدَ حِينٍ، “مُعَلَّقَةً”، فيستعِينُ، عَلَى تصْويرِ تَلَقِّيهِمْ لَهَا، بعِبَاراتٍ في النَّقْدِ تَرْقَى إلى زَمَنِ الْجاهِلِيَّةِ، فإذا نَحْنُ إِزَاءَ ضُرُوبٍ في الفَهْمِ والتَّلَقِّي:
“شِعْرٌ بائِتٌ وشاعِرٌ مُّحَكَّكٌ”!
“يَقُولُ البَيْتَ وأَخَاهُ، ولا يَقُولُ البَيْتَ وابْنَ عَمِّهِ”!
“لا يَقْبَلُ مِنْ شَيْطَانِهِ مِثْلَ الَّذِي يَقْبَلُ آخَرُونَ”!
ونَقْرَأُ نَحْنُ، ويَسْمَعُ لَبِيدٌ:
“لَيْسَ لِهَذَا الشِّعْرِ قِرَانٌ”!
“اِذْهَبْ فأَنْتَ أَشْعَرُ مِنْ قَيْسٍ كُلِّها”! (ص ص 52-54)

رآهُ يَثْنِي خِنْصرَهُ فقالَ لَهُ:
– ما تَصْنَعُ؟
عَطَسَ عَطْسَةً ضَئِيلةً ثُمَّ قالَ:
– أُحْصِي خَطَأَهُ…
– وَيْلَكَ كَيْفَ تُخَطِّئُهُ؟! هذا طِرَازٌ لَّا تُحْسِنُهُ
– لا أَبَا لَكَ! أَلِمِثْلِي يُقَالُ هذا الكلامُ! أنا، واللهِ، أَشْعَرُ مِنْهُ ومِنْ أَبِيهِ ومِنْ جَدِّهِ!
(…)
– واللهِ إنَّ النَّوْمَ وَقَعَ عَلَيَّ لَمَّا طالَ إنشادُهُ!
– ذلكَ لأنَّكَ حِمَارٌ في مِسْلاخِ إنسانٍ!
– أنتُمْ بِصَيْدِ اللَّأيِ ورَعْيِ الإبِلِ وبَيْعِ العِطْرِ أَبْصَرُ مِنْكُمْ بالشِّعْرِ!
– ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ. أَلَسْنا نَحْنُ أَفْصَحَ العَرَبِ وأَبْلَغَهُمْ؟!
– لا أُمَّ لَكَ.. وما هذهِ البلاغةُ الَّتي انفرَدْتُّمْ بِها عنْ سائِرِ العَرَبِ؟
– شَيْءٌ تَجِيشُ يِهِ قٌلٌوبُنا فتَفْذِفُهُ عَلَى أَلْسِنَتِنا…
– لَيْسَتْ لَكُمْ مَعَاشِرَ قَيْسٍ الفَصَاحَةُ، إنَّما الفَصَاحَةُ لَنَا نَحْنُ قُرَيْش! أَلَا تَرَى أَنَّكَ لا تَجِدُ في كلامِنا عَجْرَفَةَ قَيْسٍ، ولا اسْتِنْطَاءَهُمْ، ولا عَنْعَنَةَ تَمِيمٍ، ولا كَشْكَشَةَ أَسَدٍ… إلخ
(…)
– اُنْظُرْ كَيْفَ يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الباقِرَةُ بِلِسَانِها…
(…)
– لَوْ كانَ الشِّعْرُ يُؤْتَدَمُ بِهِ لَكانَ هذا!
– هذا، واللهِ، سِمْطُ الدَّهْرِ!
(…)
– شِعْرٌ كَبَعْرِ الكَبْشِ يَقَعُ مُتَفَرِّقًا!
– لِسَانُ دَعِيٍّ في القَرِيضِ دَخِيلٍ! (ص ص 186-188)

لا رَيْبَ في أَنَّهُ مَرَّتْ بِكَ، مِنْ قَبْلُ، هذهِ العِبَاراتُ في دَوَاوِينِ النَّقْدِ، وكُتُبِ الأخبارِ والنَّوَادِرِ، فإذا قَرَأْتَهُنَّ في حَجِّ الْفِجَارِ مُجْتَمِعَاتٍ، وكأنَّها قِيلَتْ في لَبِيدٍ وِشِعْرِهِ = فستَعْرِفُ ما أَعْنِيهِ بإحسانِ موسَى وِلْد ابْنُو في “الصَّنْعَةِ”، وشَبَهِهِ بالمُنَقِّبِ عنِ الآثارِ، حِينًا، وبالنَّسَّاجِ والْحَائِكِ، حِينًا آخَرَ، وأَدْرَكْتَ مِقْدَارَ مَهَارَتِهِ في “التَّلْفِيقِ”.
لَكِنَّ عالِمَ الآثارَ قَدْ يُعْجِزُهُ تَرْمِيمُ أَثَرٍ اِكْتَشَفَهُ، والنَّسَّاجَ رُبَّما أَيْأَسَهُ الظَّفَرُ بِقِمَاشٍ يَكُونُ لِفْقَ قِمَاشٍ آخَرَ، كَمَا اسْتَيْأَسَ صاحِبُنا موسَى وِلْد ابْنُو في عَمَلِهِ هذا الَّذي شَبَّهْتُهُ بالْجِدَارِ، مَرَّةً، وبالقِمَاشِ، مَرَّةً أُخْرَى.
أرادَ أن يُصَوِّرَ بِيئَةَ الْجَاهِلِيِّينَ بِلِسَانِهِمْ، فَلَحِقَهُ الفَلَاحُ كثيرًا. أَدَارَ جانِبًا كبيرًا مِّنْ أسواقِ العَرَبِ قَبْلَ الإسلامِ، وقَرَّبَ إلى قارِئِهِ أحوالَها، فنَصٌّ جاهِلِيٌّ مِّنْ هُنا، وفِقْرَةٌ مِّنْ هُناكَ، فلَمَّا آنَسَ مِنْ عَمَلِهِ “الْجَاهِلِيِّ” نَقْصًا، هَبَّ يُتِمُّهُ، فإذا قارِئُهُ الَّذي يَمْتَلِكُ مِفْتاحَ القِرَاءَةِ يَقِفُ عَلَى هذا الْقَوْلِ الطَّريفِ البَدِيعِ، يُصَوِّرُ بِهِ الشَّاعِرَ لَبيدًا في سُوقِ عُكاظ، وقَدْ “رَأَى رَجُلًا في أَطْمَارٍ يَعْتَرِضُ المَارَّةَ ويَقُولُ بأَعْلَى صَوْتِهِ:”
يا قَوْمُ! ما مِنْكُمْ إلَّا مَن يَلْحَظُنِي شَزْرًا، ويُوْسِعُنِي حَزْرًا، وما يُنْبِئُكُمْ عَنِّي أَصْدَقُ مِنِّي. أنا رَجُلٌّ مِّنْ هَوَازِن، قَدْ وَطَّأَ لِي الفَضْلُ كَنَفَهُ، وَرَحَّبَ بِي عَيْشٌ، ونَمَانِي بَيْتٌ.. ثُمَّ جَعْجَعَ بي الدَّهْرُ عَنْ ثَمِّهِ ورَمِّهِ، وأَتْلَانِي زَغَالِيلَ حُمْرَ الْحَوَاصِلِ، كأنَّهُمْ حَيَّاتُ أَرْضٍ مَّحْلَةٍ، فلَوْ يَعَضُّونَ لَذَكَّى سُمُّهُمْ. إذا نَزَلْنا أَرْسَلُونِي كاسِبًا، وإن رَّحَلْنا رَكِبُونِي كُلُّهُمْ. ونَشَزَتْ عَلَيْنا البِيْضُ وشَمَسَتْ مِنَّا الصُّفْرُ، وأَكَلَتْنا السُّودُ، وحَطَّمَتْنا الْحُمْرُ، وانْتابَنا أبو مالِكٍ، فما يَلْقانا أبو جابِرٍ، إلَّا عَنْ عُقْرٍ، وهذهِ عُكاظٌ، ماؤُها هَضُومٌ، وفقِيرُها مَهْضُومٌ، والمَرْءُ مِنْ ضِرْسِهِ في شُغْلٍ، ومِن نَّفْسِهِ في كَلٍّ، فكَيْفَ بِمَن يُطَوِّفُ ما يُطَوِّفُ ثُمَّ يأْوِي إلى زُغْبٍ مُحَدَّدَةِ العُيُونِ، كَسَاهُنَّ الْبِلَى شُعْثًا، فتُمْسِي جِيَاعَ النَّابِ ضامِرَةَ البُطُونِ…
(…)
ولَقَدْ أَصْبَحْنَ اليَوْمَ وسَرَّحْنَ الطَّرْفَ في حَيٍّ كَمَيْتٍ، وبَيْتٍ كَلَا بَيْتٍ، وقَلَّبْنَ الأَكُفَّ عَلَى لَيْت، فَفَضَضْنَ عُقَدَ الضُّلُوعْ، وأَفَضْنَ ماءَ الدُّمُوعْ، وتَدَاعَيْنَ بِاسْمِ الْجُوعْ. والفَقْرُ في زَمَنِ اللِّئَامِ لِكُلِّ ذِي كَرَمٍ عَلَامَهْ، رَغِبَ الكِرَامُ إلى اللِّئَامِ. ولَقَدِ اخْتِرْتُمْ يا سادَهْ، وَدَلَّتْنِي عَلَيْكُمُ السَّعَادَهْ، وقُلْتُ قَسَمًا: إنَّ فيهِمْ لَدَسَمًا. فَهَلْ مِنْ فَتًى يُعَشِّيهِنَّ، أَوْ يُغَشِّيهِنَّ؟ وهَلْ مِنْ حُرٍّ يُغَذِّيهِنَّ، أَوْ يُرَدِّيهِنَّ (حَجُّ الفِجَارِ، ص ص 15-16)

​سيُقَالُ: ما هذهِ اللُّغَةُ الْعَسِرَةُ الَّتي كأنَّما خُوْطِبَ بِها الْجاهِلِيُّونَ؟ عَلَى أنَّكَ – متَى امْتَلَكْتَ مِفْتاحَ القِرَاءَةِ – لن يُعْجِزَكَ مُلاءَمَةُ هذهِ الْفِقْرَةِ لِسُوقٍ فيها كُلُّ فِئَاتِ النَّاسِ؛ فيها التَّاجِرُ والفاجِرُ، والصَّالِحُ والطَّالِحُ، وفيها، كذلكَ، الْمُخَادِعُونَ، والْحُوَاةُ! لكنَّكَ ستُقُولُ: ومَعَ ذلكَ فهذهِ اللُّغَةُ الْعَسِرَةُ الَّتي تُشْبِهُ “الْمَقَامَةَ”! إنَّما انْتَزَعَها الرِّوائيُّ الَّذي أَشْبَهَتْ صَنْعَتُهُ صَنْعَةَ عالِمِ آثارٍ أَكْمَلَ بِنَاءَ عادِيَّتِهِ ولَمْ يَبْقَ مِنْها إلَّا جُزْءٌ لَّمْ يَهْتَدِ إليهِ، فأَتَمَّهُ بِما تَيَسَّرَ لَهُ! ذلكَ أنَّ هذهِ الفِقْرَةَ الَّتي تُشْبِهُ “الْمَقَامَةَ” لا صِلَةَ لَهَا بِلُغَةِ الْجاهِلِيِّينَ! إنَّما هِيَ قِطْعَةٌ مِّنَ “الْمَقَامَةِ البَصْرِيَّةِ” أَدَارَها بديعُ الزَّمانِ الهَمَذَانِيِّ في القَرْنِ الرَّابِعِ للهِجْرَةِ عَلَى لِسَانِ بَطَلِهِ عيسَى بْنِ هِشَام في “المِرْبَدِ”، لا في “عُكاظٍ”:
يا قَوْمُ! ما مِنْكُمْ إلَّا مَن يَلْحَظُنِي شَزْرًا، ويُوْسِعُنِي حَزْرًا، وما يُنْبِئُكُمْ عَنِّي أَصْدَقُ مِنِّي. أنا رَجُلٌّ مِّنْ (أَهْلِ الإسكندريَّةِ)، [مِنَ الثُّغُورِ الأُمَوِيَّةِ] قَدْ وَطَّأَ لِي الفَضْلُ كَنَفَهُ، وَرَحَّبَ بِي عَيْشٌ، ونَمَانِي بَيْتٌ، ثُمَّ جَعْجَعَ بي الدَّهْرُ عَنْ ثَمِّهِ ورَمِّهِ، وأَتْلَانِي زَغَالِيلَ حُمْرَ الْحَوَاصِلِ:
كَأَنَّهُمْ حَيَّاتُ أَرْضٍ مَّحْلَةٍ فَلَوْ يَعَضُّونَ لَذَكَّى سَمُّهُمْ
إِذَا نَزَلْنا أَرْسَلُونِي كَاسِبًا وَإِن رَّحَلْنا رَكِبُونِي كُلُّهُمْ
ونَشَزَتْ عَلَيْنا البِيْضُ وشَمَسَتْ مِنَّا الصُّفْرُ، وأَكَلَتْنا السُّودُ، وحَطَّمَتْنا الْحُمْرُ، وانْتابَنا أبو مالِكٍ، فما يَلْقانا أبو جابِرٍ إلَّا عَنْ عُفْرٍ، وهذهِ (البَصْرَةُ)، ماؤُها هَضُومٌ، وفقِيرُها مَهْضُومٌ، والمَرْءُ مِنْ ضِرْسِهِ في شُغْلٍ، ومِن نَّفْسِهِ في كَلٍّ، فكَيْفَ بِمَن:
يُطَوِّفُ مَا يُطَوِّفُ ثُمَّ يَأْوِي إِلَى زُغْبٍ مُحَدَّدَةِ العُيُونِ
كَسَاهُنَّ الْبِلَى شُعْثًا، فَتُمْسِي جِيَاعَ النَّابِ ضَامِرَةَ البُطُونِ
ولَقَدْ أَصْبَحْنَ اليَوْمَ وسَرَّحْنَ الطَّرْفَ في حَيٍّ كَمَيْتٍ، وبَيْتٍ كَلَا بَيْتٍ، وقَلَّبْنَ الأَكُفَّ عَلَى لَيْتَ، فَفَضَضْنَ عُقَدَ الضُّلُوعِ، وأَفَضْنَ ماءَ الدُّمُوعِ، وتَدَاعَيْنَ بِاسْمِ الْجُوعِ
وَالْفَقْرُ فِي زَمَنِ اللِّئَا مِ لِكُلِّ ذِي كَرَمٍ عَلَامَهْ
رَغِبَ الْكِرَامُ إِلَى اللِّئَا مِ، [وَتِلْكَ أَشْرَاطُ الْقِيَامَهْ]
ولَقَدِ اخْتِرْتُمْ يا سادَةُ، وَدَلَّتْنِي عَلَيْكُمُ السَّعَادَةُ، وقُلْتُ قَسَمًا: إنَّ فيهِمْ لَدَسَمًا، فَهَلْ مِنْ فَتًى يُعَشِّيهِنَّ، أَوْ يُغَشِّيهِنَّ؟ وهَلْ مِنْ حُرٍّ يُغَذِّيهِنَّ، أَوْ يُرَدِّيهِنَّ
(مقاماتُ بديعِ الزَّمانِ الهَمَذَانِيّ، ص ص 75-77)

​وبَيْنَما خَدَعَ “شاطِرُ” المِرْبَدِ النَّاسَ خَدَعَ “شاطِرُ” عُكاظٍ قَوْمًا مِّنْهُمُ الشَّاعِرُ لَبِيدٌ، “وخَلَعَ بُرْدَهُ ومَنَحَهُ إيَّاهُ، فقالَ الشَّحَّاذُ:
– أُرِيدُ مِنْكَ قميصًا وجُبَّةً وعِمَامةً!
صاحَ بِهِ أَحَدُهُمْ:
– شَحَّاذٌ، ورَبِّ الكَعْبَةِ أَخَّاذٌ!”.
فإذا هذهِ العِبَارَةُ “شَحَّاذٌ، ورَبِّ الكَعْبَةِ أَخَّاذٌ!”، لَكَالْخَرَزَةِ انْتَزَعْها موسَى وِلْد ابْنُو مِنَ “المَقَامَةِ الفَزَارِيَّةِ” للبديعِ (ص 80)، وأَتَمَّ بِها سِلْكَ رِوايَتِهِ البديعَ!
​ولا تَكادُ تَمْضِي في حَجِّ الفِجَارِ غَيْرَ قليلٍ، ولا يَكَادُ لَبِيدٌ يَمْضِي بِكَ في سُوقِ الْحَوَّائِينَ، حتَّى يستوقِفَكَ ما استوقَفَهُ:
رَأَى حَوَّاءً يَتَلَمَّظُ كأنَّهُ أَرْقَمُ، يَصِيحُ في وَجْهِ المارَّةِ:
– آكُلُ أَيَّ حَيَّةٍ تُشِيرُونَ إليها في جَوْنَتِي غَيْرَ مَشْوِيَّةٍ، وآخُذُ المَرَارَةَ وَسْطَ راحَتِي فأَلْطَعُها بِلِسَانِي، وآكُلُ عِشْرِينَ عَقْرَبانَةً نِيَّئَةً بِدِرْهَمٍ واحِدٍ” (ص 23)

حتَّى تَسْتَعِيدَ حديثَ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أبي عُثْمانَ عُمْرو بْنِ بَحْرٍ الْجاحِظِ عنْ جَمَاعَةٍ مِّنَ الحَوَّائِينَ في بَغْدَادَ وفي البَصْرَةِ “يَأْكُلُ أَحَدُّهُمْ أَيَّ حَيَّةٍ أَشَرْتَ إليها في جَوْنَتِهِ، غَيْرِ مَشْوِيَّةٍ، ورُبَّما أَخَذَ المَرَارَةَ وَسْطَ رَاحَتِهِ، فلَطَعَها بِلِسَانِهِ، ويَأْكُلُ عِشْرِينَ عَقْرَبانةً نِيَّةً بِدِرْهَمٍ”. (الحَيَوان، 4/303) = فيَقْوَى لَدَيْكَ أمرانِ؛ تَضَلُّعُ الفيلسوفِ الأديبِ مِنَ التُّرَاثِ، ومَهَارَتُهُ في تَلْفِيقِ النُّصُوصِ، حتَّى كأنَّهُنَّ ما وُلِدْنَ إلَّا في هذهِ الرِّوايةِ = وأنَّ عَبْقَرِيَّةَ حَجِّ الفِجَارِ إنَّما هِيَ في صَنْعَةِ “القَصِّ واللَّصْقِ”، و”التَّقْمِيشِ”، و”النَّسْجِ”، وتَخَيُّرِ مَوَادَّ قديمةٍ لِّعِمَارَةٍ جديدةٍ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى