في صباح يوم الجمعة 4 شعبان 1444هـ، استيقظ محبو فنِّ العرضة الجنوبية على نبأ رحيل الشاعر الجماهيري الكبير “عطية السوطاني”؛ إثر تعرضه لجلطة في القلب، عن عمر يُناهز الخمسين عامًا.
فنُّ العرضة؛ هو ذلك الموروث الشعبي الذي يقدَّم في الاحتفالات، ويحييها شعراء يرتجلون القصائد على المنابر؛ فيقول الشاعر الأوَّل أربعة أشطر أو أكثر، ليأتي الرد من الشاعر الآخر بالرد، ويستعمل الجناس، بما يُسمى بـ«الشقر» في المنطقة الجنوبية، أي بمعنى شقر نهاية كل شطر إلى معنيين مختلفين.
عندما نُحلل شخصية الشاعر عطية، ونقف عندها كثيرًا متأملين «الكاريزما» التي يتمتع بها، نجد أننا نقف أمام نموذج لشاعر حقيقي، وَهَب حياته لتيه الشعر وتمرده…
عندما يواجه الشعراء على المنصة، يكون في قمة الحماسة وشجاعة الموقف، ولا يتزحزح من مكانه! لذلك تكونت جماهيرية عريضة له؛ بسبب هذه الحماسة التي عُرفت عنه وغلفتها «كاريزما» خاصة.
لم يكن يظهر إلا على منصات الشعر، ولم يكن يغره وهج الحضور الإعلامي، على رغم بحث الإعلام عنه، بل إنه لم يكن يستهويه أي بريق غير ميدان الشعر والمحاورة.
بدأ مشواره الشعري صغيرًا؛ في سن الثامنة تقريبًا، بعد أن عصره اليتم، ونزل إلى الميدان في تهامة الباحة، بدعم من أفراد قبيلته وأقاربه، الذين كانوا يلتفون حوله لحمايته من «عنتريات» بعض الشعراء، الذين يحاولون منعه من المشاركة، كما أنه وجد تشجيعًا من بعض مشايخ وأعيان تهامة الباحة أيضًا، وتعاطفًا مع عمره الصغير، إذ وجدوا فيه الشاعر القادم لتهامة… فصدق حدسهم وما توسموه فيه؛ فكان خير من يقف ليذود عن تهامة وأهلها، حتى لُقب بـ”شاعر تهامة”.
وعلى رغم محاربة الشعراء الكبار له، ومحاولتهم لإقصائه عن ساحة الشعر وإبعاده من المشهد؛ بتجاهله أو بالتحالف ضده، فإنه شق طريقه بكل قوة، وتسببت هذه الحرب في ردة فعل عنيفة لديه، فبات عنيفًا لمن يتجرأ على مهاجمته…
وبعد بروزه وتألقه وازدياد شعبيته، كان هو المجدِّدَ لشعبية العرضة وزيادة متابعتها، فصار الناس يركضون إلى كل حفلة يكون مشاركًا فيها، وحافظ على شعبية هذا الموروث، ونفخ فيه روائع إبداعه، فزادت المتابعة له وتوسع جمهوره…
ومن طبيعة شعر المحاورة، في العرضة، اعتماده على المدح والحماسة، إلا أن المتتبع لأبيات عطية يلحظ أنه يعاني من خذلان ما؛ فيتكرر في شعره خذلان الصديق والرفيق والحبيب… يقول، في إحدى محاوراته:
«اترك رفيقًا ما يسرّك نهار الشدّة
وارمِ ثيابٍ ما تستّر جنوبها».
وفي الجانب الآخر، كان يكثر من مفردتي «الموت، والحياة» في شعره، من باب محاولته لتفسير ماهية وجود الإنسان، يقول في أحد أبياته:
«والسنين الطويلة كأنها ضيء عبرة
لو تعيش الخلايق تقصر أعمارها».
وتحضر الصورة الشعرية، في أبياته، في غاية الدقة وروعة التصوير العجيب، والأعجب من ذلك أن هذه الصور، التي كان يدرجها ضمن البيت، كانت ارتجاليةً ووليدة اللحظة، بحكم طبيعة المحاورة في هذا الفن! يقول، في إحدى محاوراته:
«من يقول المدح في ناس ما يستاهلونه
مثل من بالشهد يسقي عروق الحنظلة».
وهو معنى بديع، وهذا ما يُسمى في علم البلاغة «التشبيه التمثيلي» وهو يتجاوز تشبيه شيء بشيء إلى تشبيه صورة بصورة؛ إضافةً إلى قوة مدلول هذه الصورة الشعرية الغارقة في المُثل العليا والحكمة…
كانت مقطوعاته في شعر العرضة رشيقة، تتميز بالبلاغة من ناحية الطباق والمقابلة والتماثل، ما أعطى أسلوبه موسيقى شعرية قلَّ أن تجدها في غير شعره، ولم يكن يتكلف فيعسف الكلمة؛ إذ كانت تجري كلماته متدفقة من دون ثـقل على المسامع، يستشعر السامعون صدقها ويجدون أثرها فاعلًا في النفوس، فكأنما يصب شعره في القلوب لا الآذان.
في أيامه الأخيرة، وقبل وفاته بحوالي أسبوع، عندما زاره بعض محبيه في المستشفى، وهو يعاني من تبعات الجلطة الأولى، كانت روحه تقاوم شبح الموت والتلاشي، فخرج مع محبيه إلى حديقة المستشفى، وبَدَعَ أبياتًا، ثم رد على نفسه بأسلوب المحاورة، وقد وثـقـتها جوالات محبيه، فكانت هي آخر ما قاله هذا الشاعر المختلف في حضوره وفي لحظاته الأخيرة، الذي لا يرى وجودًا له غير الشعر الذي زرع داخله منذ الصغر، ونبت في سنيِّ عمره، ونما وتفرع معه، وكأنه أراد أن يودع الدنيا وأحبابه بالشعر، الذي استقى وسقى منه أروع الأبيات، يقول في البدع، على طبيعة نظم شعر العرضة:
«يا تمر بيشة ما مثلك ولا «تامر»
أنشد اللي جناه وذا يقطعونه
خلّ حبَّ البحر ما قد صفي حبَّه
أهل دوقة يجي من حبَّهم «دخنَا»
وأنت يا خبت صابر سمسك بادي».
ويرد في اللحظة نفسها على البدع، بحسب طبيعة هذا الفن؛ بالإتيان بالجناس لكل كلمة في الشطر الأخير:
«صرت يا قلب لا تنهى ولا تامر
كنك اللي قتيل «وذايق طعونه»
يوم حبّيت «واحدٍ» ما صفي حبُّه
أغلب أحبابنا من «حبّهم دخنا»
قد ذبحني الغرام «وسمسم أكبادي»
كانت هذه آخر مقطوعة شعرية نظمها – رحمه الله – وروحه تعيش الذبول ولحظاتها الأخيرة في هذه الدنيا… وعندما ضاقت روحه من جدران المستشفى، خرج على مسؤوليته؛ كأن روحه طير حر لا يحب أن يبقى في سجن تحت أي ظرف كائن، وكما قال – رحمه الله – في إحدى محاوراته، مخاطبًا روح الإنسان، وأن الموت ينتظره مهما تباعد مجيؤه، وهو يؤمن بأن روحه ليس باستطاعته أن يحجب المقدر عنها، ولا يضمن استمرارها في الحياة وقد يأتي في أي وقت:
«ارقصي والعبي والموت يحداك يا عوج الرقاب
وكثير العرب يقولون يا مَبْعدك يا الموت عنا
وأنا ما أحجبت روحي للمقدر وما ضيمنتها
ابن آدم قوي الحيل، لكن سهم الموت أقوى
كم «وجوهن» مضاها الموت الأحمر ودوس رقابها».
من خلال مسيرته الشعرية، والقراءة التأملية في أبياته المرتجلة، نلحظ روحه التي تعاني معاناة خفية؛ لا يعلم عنها أحد سوى دخيلته، فهو اختار العُزلة مصاحبة له، وطوق شخصيته بسحابة من الصمت، وحتى لو جالسه أحد، فإن حديثه لا يخرج عن الشعر وفن العرضة، وتحليله لقصائد شعراء قدامى يحفظ أبياتهم.
تغمده الله برحمته ومغفرته، وهيهات أن يأتي الزمن بمثل شاعريته وحضوره المختلف.