لا نكاد نفرغُ من صلاة المغرب ليلةَ العيد، حتى نسمع من بعيد بواكيرَ أصوات (الشُّحَّات) (الطراطيع) مُؤْذنةً بحلول العيد على طريقة الصِّغار، ومُسْفرة عن بهجتهم البريئة، وفرحتهم الموعودة في هذا اليوم! وليست سوى لحظات يسيرة حتى تتوالى أصوات الفرقعة، ويضجُّ بها المساء قبل غياب الشَّفق. وقد تُصادف وأنت في طريقك إلى البيت شَدَّةَ (عُلبة)طراطيع كاملة، تشتعل الخيوط الموصولة بها باعثة رائحة (البارود) الذي يشي بالسَّعادة والسَّلام في هذا (الوقت فقط) على خلاف طبيعته! وفي ثوان تنفجر الكميَّة كلُّها على التَّوالي (أربعين) إصبعا، تُواكبها ضحكات الطَّفل الذي أشعلها ويرقبها عن كثب.. وربما كان يُمسكُ بطرف منها في يده مُظْهرا شجاعتَه.. ولا تملكُ إلا أنْ تتبَسَّم!
في طريق العودة من المسجد لست في حاجة لاستراق السَّمع لتسمع حركة التنظيف بمكانس القشِّ (المُطْرُشَة) حيثُ (تُبَرِّزُ) ربَّات البيوت أو من يخدمهن أفنية الدُّور (العَرَصَات) وهو مصطلح فصيح أصله من (بَرَزَ) بمعنى أظهر.
وقد تسمع كذلك بعض رباَّت البيوت وهي ترسل ابنتها أو ابنها لجارتها أو إحدى قريباتها تلتمس لديها مزيدَ حطبٍ، أو بعضا من التَّوابل.. وقد كانت كلُّ بيوت القرية عبارة عن فناء (دارة) تضم البيت (العُشَّة) أو عددا من الغرف المتناثرة، داخل سور لا يرتفع كثيرا عن الأرض بحيث يعزل ما يدور بالداخل!
بعد صلاة العشاء يستمر الاستعداد لصباح العيد، حتى يمضي الهزيع الأول من الليل، وتخفُّ أصوات الطراطيع إلا من اصبع (يقرح) هنا وآخر هناك، قبل أن تعود لنشاطها بقوَّة مع إقبال الفجر.
تغفو البيوت سويعات قليلة.. وما هو إلا أن يقترب الفجر، حتى يوقظَك صوتُ (المطْحَنَة) وقد أكَبَّت عليها الأمَّ أو الأخت أو غيرهما، تَدُقُّ حبوب الذُّرة أو الدُّخن وكأنها تعزف (سمفونيَّة) الحياة دون أن تشعر!
وإذا أخطأك صوتُ (المطْحَنَة) فلن يُخطئَك صوتُ لهيب الحطب في (الميفا) التَّنور الذي يهيأ لإنضاج الخبز (الخمير والحالي) وبعض الأطباق التي تعد فيه للإفطار (غدا العيد).
يُؤَذَّنُ لصلاة الفجر وقد استيقظ الجميع في الغالب، فمنهم من يغتسل للعيد قبل خروجه لصلاة الفجر، ومنهم من يُؤجل غُسْل العيد إلى ما بعدها، فيغتسل ويلبس زينته من الثياب، ويَمَسُّ من الطِّيب المتوفر لديه ما شاء. ومن كرامات هذا اليوم أنَّ الماء يغمرُ أجسادا ربما طال عهدها به!
تُشْرِقُ شمس يوم العيد بنورها الباهي، وتسطع أشعَّتُها الزَّاهية على وجوه تتوهَّجُ بنور الله مُغتبطة بأنعمه.. في هذا الصَّباح الثياب جديدة يغلب عليها البياض الناصع والابتسامة تنضحُ على كُل الوجوه.. والمحبَّة دافقة بلا تصنُّع.. وأحسب أن الجميع في صبيحة هذا اليوم منتصرٌ على إبليس، وقادر على أن يدحر الضغائن أيا كانت..!
يخرج الجميعُ إلى مُصلى العيد (المشْهد) كبارا وصغارا خلا النساء، فإنهن يمكثن أمام التنانير والمواقد يخبزن الخمير والدقيق، ويُنضجن (مكاشن) السَّمك، ومغشَّات اللحم، (ويَكْبِينَ) اللبن (يُبخِّرْنَه) بعود من حطب التَّنور (الكِباء عود البخور ونحوه كما ذكر صاحب اللسان وغيره) ويَصْنَعن العصيد الحُلْوَ (اللَّويَّ) من الدقيق حيث يكابدن إعداده بالمهرس حتى يصير على النحو الذي يُردنه! ويُحَضِّرْنَ ألوان الطَّواجن.. وأنواع الحياسي..
أنتظر أخي العزيز (خالد) أو ينتظرني، ثم نخرج مشيا نحو المشهد نتخلل بعض البيوت، ونسلك بعض الأزقَّة، نسير في شوارع القرية، نسمع التَّكبير والتَّهليل، ونرصد ــ بغير قصد ــ حركة الناس الصغار والكبار، وهم يتلاحقون ويتسابقون نحو المصلى مبتهجين، وقد استطاعوا مواراة أحوالهم..! نرى في بهجتهم وكِسْوتهم صورة (الفُلَّ) في أغصان ردائمه، الصغيرَ الذي لم تتفتَّح بتلاتُه، والكبير الذي فاح شذاه.
يتوافد الجميع كبارا وصغارا على (المشْهد) مُصلَّى العيد، ويجتمعون فيه في صورة أخَّاذة الجمال.. لن تراها إلا في هذا اليوم! يدخل الكبار المصلى ويجلسون يكبرون الله ويحمدونه.. ويقف الصغار على جانبي سور المصلى يضحكون، ويفرقعون ما يحملون من أصابع الطراطيع.
يترقب الجميع وصول الخطيب، وما هي إلى دقائق حتى تصل سيارته، فيترجل منها الشَّيخ (هادي مدخلي) ويرفع غطاء محرك الصالون (الكبُّوت) ليوصل أسلاك الــ AMPLIFIER (مُضخِّم الصَّوت) بأصابع البطارية، ثم يوصلها بأسلاك مكبرات الصَّوت المتدلية في موقعين أو أكثر من سور المصلى، ويختبر الصَّوت: بسم الله، الله أكبر، الله أكبر، وبالكاد يظهر الصَّوت على ما فيه من (خرفشة) ولكنه يسمع! ثم ينفضُ يديه من الغبار الذي علق بهما ومن كربون البطارية، ويتناول عباءته (البشت) من السيارة ويُكبِّر لصلاة العيد، وما أن ينتهي من الصلاة حتى يبدأ خطبته: الله أكبر الله أكبر فينقطع الصوت من السماعات! ويحاول هو أو غيره من الشباب في الصف الأول إصلاحه.. وفي ذات اللحظات تتعالى أصوات الصِّبية الصغار، وتتوالى أصوات الطراطيع وتتصاعد أدخنة بارودها وينادي فيهم (يا أولاد..) ثم يحاول الشيخ ضبط أعصابه ومواراة توتره.. وينطلق في خطبته على ما كان من رداءة الصوت في المكبرات، وما فيه من تقطع وخرفشات..
الله أكبر الله أكبر.. يُذَكِّرُ الناس بنعم الله عليهم في هذا اليوم، ويوصي ببر الوالدين وصلة الأرحام، وتفقد الضعفاء من الجيران وغيرهم، ويَعُدُّ بعضا من أحكام الأضحية وأيام التشريق.. ثم يؤكد على شكر الله لما نعيشه من وَحْدَة الوطن وأمنه وحكمة قيادته أعزها الله ويدعو لهم بالتمكين.. تنتهي الخطبة، وينهض الجميع يقبل بعضهم بعضا يلهجون بهذا الكلمات الطيبة: “تقبل الله منا ومنكم وغفر الله لنا ولكم”.
ومن الجميل في هذه الصُّورة، أنه لا يتخلَّف عن صلاة العيد إلا من أقعدَه المرض أو من كان مسافرا أبطأ به سفرُه. ثم إنَّ الجميع يمكثون بعد الصلاة لسماع الخطبة ولا يكاد ينصرف إلا نفرٌ محدود جدا لا يؤثر على الجمع البهيّ.
وبعد معانقة الأهل والأصدقاء نعود إلى البيت، من الطريق المؤدية لبيت شيخ القبيلة، فالجميع سوف يُعَرِّجُون بعد الصلاة على مجلسه، وهي عادة حميدة، وتقليد رائع، بما يحمله من معاني التقدير والألفة.. وصورة مُصغَّرة لما نعيشه في وطننا الكريم من التلاحم والاجتماع بفضل الله. وفي المجلس تجد الجميعَ يمرون مُسلِّمين ومهنئين ومن يجلس منهم لا يستمر مكوثه إلا بمقدار ما يشرب فنجال قهوة، أو يمضغ قطعة من الحلوى. وفي مجلس الشيخ في هذا الصباح يتاح لك رؤية أشخاص لن تراهم إلا في هذا الوقت، ممن يسكنون خارج المنطقة وقدموا للزيارة خلال إجازة العيد.
نواصل سيرنا بعد هذه المحطة، وفي طريقنا نلتقي مَنْ لمْ نَلْقَه في المصلى، ونرى البُنَيَّات الصّغيرات يتخَلْلَّنَ البيوتَ زاهياتٍ كشقائق النعمان، تفُوحُ منهنَّ الرِّيحُ الطَّيِّبةُ كما يفوحُ (نَوْرُ الفاغِيَة) في بيت عمتي (آمنة حفظها الله).
نُعرج في طريقنا على بعض البيوت للسَّلام على من فيها من الأرحام والقريبات المُسِنَّات، ونزور بيت عمي (محمد ــ الفقيه ــ رحمه الله) ولا يمكن أن تغادر مجلسه إلا وتسمعَ منه ــ بأسلوبه الشَّيِّق وسَرْدِه الماتع في أقل من دقيقتين ــ قصَّة قصيرة لا تخلو من حكْمة أو عِبْرة أو طُرْفَة عذبة! ولن نجتاز بيت العم (علي هادي رحمه الله) حتى ندخل ونُسلم على العمة (صالحة رحمها الله) ونخطف اللُّقمة واللقمتين من طعامها الذي لا يُفَوَّت! وبخاصة (الخوجة) الزُّبدة التي تتراكم على اللبن الذي تمخضه بعد حلْبِه من بقرتها قريبة المربط.
وفي الطريق نحو بيوتنا ــ وهي مجتمعة في محيط واحد ــ نتأمل الموائد الممتدة في الطرق، وفيها ما تشتهيه النفس من صنوف الطعام الذي تمتاز به المنطقة، ففي العيد تجد كلَّ أهل حارة، أو كل جماعة يتهادون صِحَافَ الطعام وآنيته، ويُخْرِجُونها في مكان واحد، يجتمعون على (عيدهم)، في مشهد لا مثيل له، فلا فقير اليوم بينهم!
نصلُ إلى بيوتنا، ويدخل كل منا إلى أمِّه وأهل بيته يهنئُهُم بالعيد، ولا يلبث أن يُكلَّف بحمل الطعام الجاهز، فنأخذه إلى الفناء في بيت عمي (أحمد حفظه الله) حيث تجتمع الأطعمة من بيوتنا لتُشَكّلَ الإفطار، أو كما يسمونَه (غدا العيد).
وعن هذه السفرة قُلْ ما شئت.. تمتد من غرب الفناء وتنهي في أقصى شرقه تحت ظل شجرة المانجو العتيقة، وعند جذع تلك الشَّجرة لن تُخطئ عينُك رؤيةَ آية من آيات الله في خلقه: (ضِلع) من (حوت) وجد نافقا في سواحل بيش قبل نحو من 40 سنة! هذه السُّفرة فيها من أطايب الطعام الشيء الكثير.. ويُسجِّل السَّمكُ حضوره بقوة في (غدا العيد) فتلك (مكاشن) يغمرها السَّليط (زيت السمسم) وأخرى مقلية في السَّمْن البلدي، وثالثة مغمورة في طاجن الطماطم.. (والحياسي) بألوانها الفُسْتُقيَّة الزاهية ومحتوياتها المتنوعة: (فَرْقَة ، حالي ولبن ، ثريد ) تمتد منتصبة على طول المائدة وسميت (حياسي) من الحَيْس وهو الخَلْط، أو من الحَوْس وهو الأكل، أو من الحُوَاسات بمعنى الأُكُولات، كما ذكر ذلك صاحب اللسان وابن سيدة في (المخصَّص).
وأقراص الخمير بلونه الأحمر، وأقراص الدقيق الأبيض تملؤ كل الفراغات على المائدة، والطواجن من الباميا والدِّجِر والملوخيَّة والقَوار.. والحُلْو والحامض.. واللبن (الحِقْنَة) والزبادي (القَطيبة).. تتوزَّعُ صِحاف الحالي على امتداد المائدة وكأنها زهور (الأُقحوان الأبيض) يتوسطها العسل يعلوه السَّمن. وفي هذا اليوم لا يبخل أحد بما عنده من العسل الحُرّ! وقد يحضر اللَّحم في (غدا العيد هذا) ولكن على استحياء؛ لأن ذبح الأضاحي لم يبدأ. وقد أخبرنا آباؤُنا رحمهم الله أنهم وآباءَهم كانوا لا يأكلون شيئا في يوم العيد هذا، حتى يذبحون أضاحيهم فيَطْعَمون منها اتباعاً للسُّنَّة.
الجميع اليوم سواسية، لا تكاد تفرق بين غنيهم ومعدمهم؛ فقد لبسوا أحسن ثيابهم، وابتسموا ليومهم، وضحكوا في ملاقاة بعضهم، وتبادلوا الطرائف، وأتوا على شيء من ذكريات جميلة جمعتهم.
بنهاية مراسم الإفطار يعود كل إلى داره، ويبدأ في ذبح أضحيته إذا كان يُحْسِنُ الذبح بنفسه، أو يستعين بمن يحسن ذلك، ولكنه يحاذر ممن يدعي الحذق بالذبح وهم يكثرون في العيد، فيأتيك الواحد منهم (بشفرة) صدئة، وإذا غفلت عنه قام يعالج الكبش المسكين.. فإذا انتبهت إليه ولمُتَه ادَّعى أن الذَّبيحة (قويَّة) ما شاء الله! ومثل هذا لو تركته يكمل عمله، فإنه يرتكب جريمة في حق الأضحية، ويفسد عليك لحمَها، بل يفسد عليك العيدَ كلَّه! وبعد حلِّ الأضحية، يُُُُُخرج ربُّ البيت ماكينة الحلاقة وينظفها ويضع فيها الموسى، فيُحَسِّن شاربيه، ويهذب لحيتَه بالمقصِّ..
يُقَسَّمُ لحمُ الأضحية بين: هديَّة وصدقة ومأكول للبيت.. وكان والدي رحمه الله يتفرَّغ لتقطيع لحْم (المحشوش) بنفسه، ويقدمه للوالدة (زهراء) رحمها الله لتصنعه.. ولا نُحْرَم من كمية مناسبة منه نأخذها معنا عند السَّفر بعد أيام العيد. والمحشوش قطع لحْم تؤخذ من الأضحية وتُطْبخُ في زيت الشَّحم بعد إذابته، وتضاف لها توابل محدودة جدا.. وهي أكْلَة موسميَّة تشتهر بها المنطقة وما جاورها من أرض تهامة.
لم ينْتهِ العيد، فكل بيوت القرية مفتَّحة أبوابُها؛ يتنقَّل بينها الصِّغار والكبار أرحاما وأقارب وجيرانا وأصدقاء.. مُهنئين داعين بالسَّعادة والبَرَكة.. وأما النساء فللَّه ما يجدْن من العناء، وما أعجبَ حالهُنّ! فلا يلبَثْن حتى يشْرَعْن في إعداد وجبة الغداء التي يتسَيَّدُها اللَّحمُ: حنيذا ومَرَقا في (المغشَّات والبُرَم) وتطلُّ عليك (المرْسَة) بنكهة الموْز البلدي، والعسل المصفَّى والسَّمن. ولا شك أنَّ (الْلَّحُوح) لا يغيب!
وفي المساء من يوم العيد كثيرٌ من الفعاليَّات والسَّمَر.. يطول الحديث عنه ويَعْذُب..
تلك بعض الصُّور التي اختزلتها الذاكرة لعيد الأضحى في قريتي، وهي صور تتشابه في جميع قُرانا.. صُور تحكي أنَّ عيد الأضحى المبارك هو عيد للأسرة وللمجتمع، كما هو عيد للمِلَّة وللأُمَّة؛ بما يُمثّلُه من اجتماع للحجيج في يوم النَّحْر وفي أيام القَرّ والصّرّ في مكة المكرمة شرَّفها الله.
اللهم اغفر لمن عشنا معهم أجمل السنين، وهزَّنا إليهم الشَّوقُ والحنين، واجمعنا بهم في مُستَقَر رحمتك في عِليِّين.
اللهم وأدم علينا نعمك ظاهرة وباطنة في بلادنا المباركة، حرسها الله وبارك في قادتها وأعد علينا وعلى الأمَّة الإسلاميَّة الأعيادَ ونحن في خير حال..
1
ماشاء الله
وصف وتأصيل للمفردات التي قد يتبادر للذهن احيانا بأنها عامية
وصف للمشهد كأنك تعايشه خاصة القارئ من أبناء المنطقة الجنوبية
سرد قصصي فاره وتسلسل احداث منتظم كما نضمت حبات الخرز في سبحها